كانت اختصاصات العمال في ولاياتهم ما يليه عمر في المدينة، فيجمعون بين القضاء والتنفيذ، وإمارة الجند، على أن الخليفة ألفى نفسه بعد قليل من ولايته قد شغلته شئون الدولة العامة، وسياستها العليان وكانت أنباء جنده في العراق، وبلاد الشام تستغرق منه الكثير من الوقت والجهد، كما كانت تصرفات عماله موضع عنايته
وتفكيره، وازدادت مصالح الناس في المدينة تعقيدًا، وتشابكًا بازدياد عدد سكانها، وكثرة المال الذي يرد عليها، وكان تقدم الفتوح وما تقتضيه من تنظيم لشئون البلاد المفتوحة، يدعوه إلى أن يكتب إلى أمراء جنده بآرائه في هذا التنظيم، لذلك كان لا بد من أن يولي أعوانًا له يقضون مصالح الأفراد، فيما لا تتأثر به مصلحة الدولة.
وكان أول ما فعله أن فصل القضاء عن الولاية، فجعل بجانب الوالي قاضيًا ينظر في أمور القضاء لا عمل له غيره، وقد يجمع لبعض القضاة التعليم، أو القيام بشئون بيت المال إلى جانب عمل القضاء، وقد نفذ هذه الخطة في الولايات الجديدة التي فتحت في عهده، في العراق، وبلاد الشام ومصر، ولعل سبب ذلك ما تمتاز به تلك الأمصار من كثافة السكان من أهل تلك البلدان، بالإضافة إلى المسلمين الفاتحين، وما ينتج عن ذلك من كثرة القضايا والمشكلات، وثقل القيام بأعباء الولاية على الوالي، لكن عمل عمر لم يكن فصلًا كاملًا للقضاء عن سلطة الخليفة، ونوابه في الولايات بحيث أضحى القضاء سلطة مستقلة، وإنما كان علمه بداية لذلك، وكان هو الذي يعين القضاة، ويعزلهم ويحاكمهم، ويكتب لنوابه باختيار الصالحين للقضاء فيولوهم، ويكتب لقضاته بالتعليمات والآداب١.
أشهر قضاة عمر:
لعل أبرز من اشتهر في أيامه من القضاة: زيد بن ثابت الأنصاري، زيد بن سعيد بن ثمامة المعروف بابن أخت النمر، علي بن أبي طالب، لكن لم يعينه قاضيًا متفرغًا، وإنما كان يكلفه النظر ببعض القضايا، ويستشيره في الأمور الهامة، فإنه كان لا يستغني عنه، ولذلك لم يوله قيادة ولا إمارة بعيدة، عامر بن مالك بن قيس المعروف بأبي الدرداء، وقد ولاه القضاء في المدينة، إياس بن صبيح بن محرش الحنفي المعروف بأبي مريم، أول قاض على البصرة، كعب بن سور الكندي من أشهر ولاة الكوفة، عبد الله بن مسعود أحد قضاة الكوفة المشهورين، عبادة بن الصامت في بلاد الشام، ويذكر بأن التاريخ لم يحفظ لنا أسماء قضاة مشهورين في عهد عمر في بلاد الشام، أما في مصر فقد كلف عامله عمرو بن العاص باختيار القضاة، نذكر من بين قضاة مصر قيس بن أبي العاص السهمي، وكعب بن يسار بن ضبة العبسي.
حكم هؤلاء القضاء مستقلين برأيهم في حدود كتاب الله وسنة نبيه، وتعد توليتهم أول خطوة في تنظيم، وفصل السلطات بعضها عن بعض، على أنها كانت خطوة أدت إليها الحاجة، وقضت بها ضرورات التطور في أوضاع الدولة.