للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارًا"، على أن هذه الشدة في محاسبة الولاة لم يكن يقصد منها إضعاف سلطتهم، فقد كانت لهم الحرية المطلقة في إصدار الأحكام وتنفيذها، وسلطاتهم مساوية لسلطات عمر ما لزموا العدل، فإذا اعتدى عليهم معتد، أو استهان أحد بهم عوقب بشدة، ثم إنه كان يسمع لحجة عاملة، فإذا أقنعته لم يخف اقتناعه بها، ويثني عليه بعدها، لقد قدم إلى الشام راكبًا حمارًا، فاستقبله معاوية بن أبي سفيان في موكب فخم مهيب، ونزل معاوية وسلم على عمر بالخلافة، فمضى في سبيله ولم يرد عليه السلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف: "أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين؛ فلو كلمته! فالتفت عمر إلى معاوية، وسأله: إنك لصاحب الموكب الذي أرى؟ قال معاوية: نعم! قال عمر: مع شدة احتجاجك، ووقوفك ذوي الحاجات ببابك؟ قال معاوية: ولم! ويحك؟ وأجابه معاوية: لأننا ببلاد كثر فيها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العدة، والعدد استخف بنا وهجم علينا، وأما الحجاب فإننا نخاف من البذلة جرأة الرعية، وأنا بعد عاملك، فإناستنقصتني نقصت، وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت قال عمر: يا معاوية ما سألتك إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقًا إنه لرأي أريت، ولن كان باطلًا إنه لخديعة أديت، قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت، قال: لا آمرك ولا أنهاك"١.

وكان عمر يجمع عماله بمكة في موسم الحج من كل عام، يسألهم عن أعمالهم، ويسأل الناس عنهم ليرى مدى دقتهم في الاضطلاع بواجبهم، وتنزههم حين أدائه لأنفسهم أو لذويهم، وكان يغتبط حين يرى عماله يتجردون لخير الرعية، ويثني عليهم لذلك ثناء عظيمًا.

وفق رؤية كهذه كانت السلطة الفعلية تتطابق عمليًا مع الإدارة الجماعية، والمصالح الجماعية للأمة، ولم تكن الإمارة إلا وسيلة لتحقيق هذه الإرادة وتدبير تلك المصالح الجماعية٢، وهكذا فالإمارة ليست بنظر عمر وفي سلوكه سيادة وملكًا، وإنما تفويض وتوكيل من الجماعة التي تبقى صاحبة الأمر، لذلك كان يعزل الوالي إذا أخل بشروط التفويض الخاص به من واقع تغليب المصلحة العامة، ولنا في عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية العراق مثل على ذلك، وإن كان يشوب التهم الموجهة إليه عدم الوضوح٣.


١ ابن كثير: ج٨ ص١٢٤، ١٢٥.
٢ إبراهيم: ص٢٢٠.
٣ الطبري: ج٤ ص١٢١.

<<  <   >  >>