للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان الخيار المطروح بعد مقتل عثمان هو إما العودة إلى نظام عمر الذي اعتمد أساسًا على المصالح القبلية وقيمها، وإما الاستمرار في السير على نهج عثمان من واقع النظام الجديد الذي يعتمد على أولوية المصالح القرشية، وقد توزعت مواقف الصحابة بخاصة، والمسلمين بعامة بين هذين الخيارين، ومثل الصراع بين علي، ومعاوية هذه الثنائية المتناقضة، وقد تبنى الأول مطالب الثائرين في حين جسد الثاني الاستمرارية الحية المباشرة لنهج عثمان.

وتواجه الباحث صعوبات عديدة، وهو يرسم صورة الأحداث التي تم من خلالها اختيار الخليفة الراشدي الرابع، وذلك بفعل كثرة الروايات وتناقضها، لكن الدراسة الموضوعية تمكن من استيعاب الواقع التاريخي، إذ إن اختيار علي كان وليد الظروف التي أعقبت مقتل عثمان مباشرة، فقد خلفت حادثة القتل فراغًا سياسيًا كان لا بد من ملئه على وجه السرعة، لهذا كان ضغط الوقت شديدًا على الجميع للإسراع في الاتفاق على مرشح واحد للخلافة، تجمع عليه الأمة، وسط الذهول والانصدام، والحذر والتريث الذي خيم على أهل المدينة.

كان الثائرون ما يزالون يسيطرون على المدينة، ويملكون ناصية القرار السياسي والعسكري، إلا أنهم لم يمارسوا السلطة فعليًا، وبدوا مرتبكين وغير متوحدين أمام جسامة الحدث الذي خلقته حركتهم، وافتقروا إلى الرؤية الواضحة للخروج من المأزق، وبالتالي لم يملكوا مشروعًا للحل يمس الخلافة مباشرة، هذا في الوقت الذي أخذ فيه معظم الصحابة يتوارون عن الأنظار في عاصمة الخلافة، مفضلين الابتعاد عن التطورات التي أفلتت من أيديهم، وكان الفراغ في السلطة ينذر بأسوأ النتائج، واشتدت الحاجة إلى منقذ يتمتع بتأييد الأغلبية في التوجهات السياسية، وبخاصة الممثلة لجماعة الثائرين المعنية مباشرة بالوضع القائم١.

وهكذا، رشح المصريون عليًا، فاختبأ منهم، وطلب الكوفيون الزبير، فلم يجدوه، فأرسلوا إليه رسلًا، فباعدهم وتبرأ من مقالتهم، وطلب البصريون طلحة، فباعدهم أيضًا وتبرأ من مقالتهم، على الرغم من أن كلًا منهما كان طامعًا بالسلطة، محبًا لها، إلا أن الجو السياسي العام كان لا يسمح بتولي منصب الخلافة من دون الاتهام بممالأة الثائرين؛ الأمر الذي دفع الثائرين إلى التفاوض مع كل من عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، فرفضا وعد كل منهما نفسه قد أخرج من الأمر٢، عندئذ ترك هؤلاء الأمر لأهل المدينة.


١ الطبري: ج٤ ص٤٣٢.
٢ المصدر نفسه: ص٤٢٧.

<<  <   >  >>