الأسباب التي دعت إلى وجود المدرسة الحديثة بهذا الشكل الذي نراه اليوم، يرجع معظمها إلى تغير نظام الحياة السياسية، فقد هيمنت الدولة على كل أمور الشعب، واعتبرت نفسها مسئولية عن غذائه، وموارد رزقه، وثرواته، واتجاهاته السياسية، وتكتلاته الاجتماعية، بالإضافة إلى أمنه واستقراره، وتحقيق حرياته وكرامة أفراده، وكرامة الدولة نفسها تجاه الدول الأخرى.
وهذه الأمور كلها تبنى على التعليم والتربية، فبالتربية تنمي الثروة البشرية كما يسمونها، بحيث تكون سببا لكل أنواع الثراء: ينمي أفراد المجتمع على حب العمل، واستغلال خيرات الأرض وثروات الوطن، بأسلوب تقني يعطي أكبر منتوج ممكن، بأقل جهد ممكن وفي أسرع وقت ممكن.
وبالتربية يمكن إيجاد المحبة بين جميع طبقات الشعب، وطوائفه وفئاته، فيتحقق التجانس، والأمن والاستقرار، ويربي الجيل على احترام الأموال، والملكيات والأعراض والأرواح، فيستقر بذلك الأمن.
هذه مجمل الأسباب السياسية، والاجتماعية التي دعت الدولة إلى الأخذ بزمام التعليم، ووضع مناهجه ونظمه، وتهيئة مدارسه ومعلميه.
نقد هذه الأسباب، وموقف الإسلام منها:
رأينا اهتمام الدولة في تاريخنا الإسلامي بالتعليم، ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم أنه إذا كان شعور خليفة عادل، كعمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز، بالمسئولية عن كل ما يجري في دولته، حتى عن دابة تزل على جسم أقيم على نهر الفرات، ثم أفسدته الأمطار أو غيرها فغفل المسئولون عن إصلاحه، فكيف اهتمامهم بأرزاق الشعب وأقواته ونظم حياته، هذا أمر بدهي في الدولة المسلمة: اهتمامها بكل شئون الشعب، وعلى رأسها التعليم، ولكن الفارق يبدو واضحًا في أسلوب التطبيق، والسهر والتنفيذ، فالدولة المسلمة تعطي حرية كاملة للتعليم على أساس ثقتها بالمشرفين على التعليم، وبأن الشعب كله يؤمن بدستور واحد، وهدف واحد وتراث ثقافي واحد، فالشعب هو الرقيب المباشر على التعليم، وهو الذي يعرف كيف يوفر المؤسسات التعليمية، ويهيئ أسبابها.
ضع للمدرسة هدفا أساسيا هو تحقيق التربية الإسلامية بأسسها، وأهدافها كما مرت معنا: وخرج لها أساتذتها والمسئولين، والمؤمنين بهذا الهدف، واتركها تنطلق على أساس هذا الهدف، تجد كل شيء فيها متناسقًا، وكل نتيجة خيرة يمكن أن ننتظرها من هذه المدرسة، سواء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي، أو الديمقراطي كما يسمونه أو الأمني.
وتبقى الدولة مع ذلك رقيبًا، إلى جانب الشعب، تشجع التسابق إلى الخير في جميع مؤسسات التعليم، وتقوم كل ما اعوج منها، وتضرب بيد من حديد على كل من يتلاعب بعقيدة النشئ، أو ينحرف بأهدافهم فيغيرها، كما تمول الدولة كل ما تستطيع تمويله من هذه المؤسسات، فتعين الشعب على تربية أبنائه وتعليم أجياله، وتصبح الانطلاقة التربوية ذاتية لا مفروضة، بل نابعة من أعمال المعلمين والمتعلمين، وتصبح المسئولية التربوية مرتبطة بالنتائج التي يرتقبها المجتمع من كل مؤسسة تعليمية، بل إنها مرتبطة بالمسئولية أمام الله الذي يحصي كل مثقال ذرة من خير أو شر.