أما الباعث على الجناية هو المصلحة التي يبغي الجاني تحقيقها من وراء جنايته، أو الشعور الذي يدفعه إليها، فإنا نبين هنا مرتبة الباعث في العملية الإرادية التي تبدأ بالعلم وتنتهي بالعمل، ثم أثر هذا الباعث على الأعمال جميعها من طاعات، أو مباحات، أو معاص، وأخيرًا نبين أثر الباعث على العقوبات.
أ- مرتبة الباعث في العملية الإرادية:
وأقصد بالعملية الإرادية الحالة العقلية أو القلبية السابقة والمصاحبة للتعبير عن إرادة الإنسان بأي مظهر من مظاهر هذا التعبير: قول أو فعل، حركة أو سكون، فالعملية الإرادية عملية باطنية لا تنكشف حقيقتها إلا إذا تجسمت في صورة محسوسة ملموسة، ولا تناط الأحكام الشرعية إلا بالأمور الظاهرة المنضبطة، ومن ثم لم يعاقب من هم بسيئة ولم يفعلها، بل كتبت له حسنة؛ جزاء نزوعه عن الشر وعدم إقدامه عليه.
والنية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهو حالة وصفة للقلب، يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يقدمه؛ لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه؛ لأنه ثمرته وفرعه؛ وذلك لأن كل عمل -أعني كل حركة وسكون- اختياري، فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة؛ لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلا بد وأن يعلم، ولا يعمل ما لم يرد، فلا بد من إرادة، ومعنى الإرادة: انبعاث القلب إلى ما يراه موافقا للغرض إما في الحال أو في المآل، فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور، ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه، ودفع الضار المنافي عن نفسه، فافتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك