للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهًا في الدين. لكن من الناس من قد يعجز عنها، فيلزمه ما يقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقًا وقيل يجوز مطلقًا، وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عند الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى، والاحتهاد ليس هو أمرًا لا يقبل التجزء والانقسام، بل يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة قد تنازع العلماء فيها فرأى مع أحد القولين نصوصًا لم يعلم لها معارضًا بعد نظر مثله فهو بين الأمرين إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة تعارضها عادة غيره واشتغاله بمذهب إمام آخر، وإما يتبع القول الذي ترجح بنظره بالنصوص الدالة عليه فحينئذ موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص النبوية سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح، وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تامًّا في هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص، وإن لم يفعل كان متبعًا للظن، وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص ويقول: "أنا لا أعلمها" فهذا يقال له قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ١ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ٢ والذي تستطيعه من العلم، والفقه في هذه المسألة قد دل على أن حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده، وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إقراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول بمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم وإذا كان المقلد قد سمع الحديث وتركه لا سيما إذا كان قد رواه أيضًا عدل فمثل هذا وحده لا يكون عذرًا في ترك النص فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح،


١ سورة التغابن الآية: ١٦.
٢ أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة.

<<  <   >  >>