للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإنما هو كالأشياء المكتسبة، والعلوم المحفوظة التي يتحكم عليها العقل ويعتمد في استجلابها حتى تصير من جملة مودعاته. فهؤلاء إذا دخلوا في العمل خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى، بل لا نسبة بينهما؛ إذ هؤلاء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا، ومن جملة التكذيب الخفي العمل على مخالفة العلم الحاصل لهم، ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف ربما كانت أوصافهم الثابته من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين، فلا بد من الافتقار إلى أمر زائد من خارج غير أنه يتسع في حقهم فلا يقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات، بل ثم أمور أخرى كمحاسن العادات، ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها، وأشباه ذلك، وهذه المرتبة أيضًا يقوم البرهان عليها من التجربة إلا أنها أخفى مما قبلها فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية، والأخذ في الإنصافات السلوكية.

والمرتبة الثالثة: الذين صار لهم العلم وصفًا من الأوصاف الثابتة، بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأولى أو تقاربها، ولا ينظر إلى طريق حصولها، فإن ذلك لا يحتاج إليه، فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية وأوصافهم الخلقية، وهذه المرتبة هي المترجم لها، والدليل على صحتها من الشريعة كثير كقوله تعالى١: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ثم قال١: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} الآية. فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم لا من أجل غيره. وقال تعالى٢: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} والذين يخشون ربهم هم العلماء لقوله٣: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وقال تعالى٤: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} الآية. ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ


١ الزمر: ٩.
٢ الزمر: ٢٣.
٣ فاطر: ٢٨.
٤ المائدة: ٨٦.

<<  <   >  >>