للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والقاعدة العامّة التي تحكم عمليّة الموازنة بين نوط الحكم بالمظنّة ونوطه بالحكمة عند الفقهاء والأصوليّين، بإطباقٍ منهم، هي أنّ الأصل والغالب أن يُناط الحُكم بالمظنّة (التي تكون منصوصة عادة) لا بالحكمة (التي تكون مستنبطة عادة). ويُخرَج عن هذا الأصل في حالات خاصّة هي ما سنوضّحه في هذا البحث إن شاء الله تعالى.

والغاية من نوط الحكم بالمظنّة لا بالحكمة هي تشوُّف الشّارع إلى الضّبط والحَسْم والوضوح في وضع الأحكام وسنّ القوانين. ومقصدُ الضّبط هذا ينطوي على مقاصد أو مصالح أخرى. فالضَّبط، على التّحقيق، ليس غايةً في نفسه، بل الغاية الحقيقيّة هي ما يترتَّب عليه من مصالح للمكلّفين أفرادًا وجماعاتٍ. وتتمثّل هذه المصالح - المترتّبة على الضّبط - في ثلاثة معانٍ يمكن عدُّها الغايات المصلحيّة لنوط الأحكام بالمظانّ دون الحِكَم، وهي: التّسهيل، والاحتياط، وقطع النّزاع. وقد تجتمع هذه الغايات، كلّها أو بعضها، في المثال الواحد والمسألة الواحدة، وقد يتجلَّى انفراد أحدها أو غلبته على غيره في أمثلة أو مسائل أخرى.

المطلب الثاني: أشكال تصرّفات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين المظنّة والحكمة

بالاستقراء والتأمّل فيما يُوجد عند الفقهاء من مسائل فقهية، يتردَّد الحكم فيها بين أن يُناط بالمظنة، أو يُناط بالحكمة، وجدتُّ أنّ تصرُّفاتِهم، تتّخذ أشكالًا أربعة:

الأوّل: أن يقطعوا الحكم عن المظنّة المنصوصة، ويديروه مع الحكمة وجودًا وعدمًا، وهذا إذا كانت الحكمة منفردة بالحكم، ومفهومة بوضوح من النصَّ على المظنّة.

ومثاله: «لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان» (١)، أداروا حكم كراهة القضاء مع تشوُّش الذهن (الحكمة) وجودًا وعدمًا، وقطعوه عن الدوران مع ذات الغضب (المظنّة المنصوصة)، فكلُّ ما يشوِّش - كالألم والاحتقان والجوع والعطش المفرطين - مكروهٌ معه القضاء. والغضبُ اليسير غير المشوِّش يرتفع عنه حكم الكراهة. فالغضب نفسه لم يعد مَناطًا للحكم، بل تشوّش الذهن، وجودًا وعدمًا (٢).


(١) أحمد، المسند، ٣٤/ ١٤ واللفظ له. قال الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ البخاري، الصحيح، ٩/ ٦٥؛ مسلم، الصحيح، ٣/ ١٣٤٢.
(٢) ينظر: ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، ٤/ ١٨٥؛ ابن حجر، فتح الباري، ١٣/ ١٣٧.

<<  <   >  >>