للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحال الثانية: أن تكون الحكمة منصوصة والمظنّة اجتهادية:

الغالب في الشرع النصّ على المظنة لا على الحكمة، ولكن ثمّة حالات ينصّ الشارع على وصف لا يبلغ الغاية في الانضباط والظهور، أو ربّما صارت تلزم عنه مفسدة بتغيّر الزمن، فيجتهد الفقهاء بوضع ضابط لهذا الوصف يكون مظنة له، وينيطون الحكم بهذه المظنة الاجتهادية، ويقطعونه عن الوصف الشرعي المنصوص (المظنة المنصوصة)، أي أنّهم يقيمون المظنة الاجتهادية مقام المظنة المنصوصة. وحينئذٍ تُصبح المظنة المنصوصة حِكمةً بالنّسبة إلى المظنّة الاجتهادية؛ لأنّ هذه الأخيرة (المظنة الاجتهادية) تُفضي إليها (أي إلى المظنة المنصوصة) وتضبطها. وكنا قد أشرنا إلى أنّ اعتبار وصف ما "مظنة" أو "حكمة" هو أمر نسبي في عديد الأحيان تحكمُه ظاهرة تسلسل العلل والأوصاف، فيكون الوصف مظنةً بالنسبة لما يقع بعده في التسلسل من الأوصاف، ويكون حكمةً، في الوقت نفسه، بالنسبة لما يقع قبله (١).

ومثال هذه الحالة نوط جمهور الفقهاء وجوب المهر كاملًا على الزوج بمجرّد خلوته بالمرأة، مع أنّ النصّ علَّق الحكم ظاهرًا بالدخول ولم يذكر الخلوة، ولكن لما رأى كثيرٌ من الفقهاء أنّ الدخول يتّصف بالخفاء عن الشهود، فيعسر إثباته في مجاري القضاء، إذا ادّعته المرأة ونفاه الزوج، ناطوا الحكم بمظنّته، وهي الخلوة، وأداروا الحكم معها بغضّ النظر عن حصول الدخول وعدمه (٢).

ومثال ذلك أيضًا نوطُ الفقهاء البلوغَ بسنٍّ معيّنة، سواء ظهرت علامات البلوغ على المكلّف أم لم تظهر، مع أنّ الشرع نصّ على الاحتلام والحيض ولم ينصّ على السنّ، لكنّهم اعتبروا أنّ هذه السنّ مظنّة للبلوغ الحقيقي، واختلفوا في تقديرها اختلافًا كثيرًا. وكذلك اختلفوا في السنّ التي يثبت معها النَّسب من الزوج، فبعضهم جعلها سنّ البلوغ نفسها؛ لأنها مظنّة القدرة على الإنجاب؛ وبعضهم نزل فيها دون ذلك؛ لأنّ البلوغ الحقيقي كثيرًا ما يكون بأقلّ منها في الواقع، والنَّسب مبناه على الاحتياط (٣).


(١) صالح، "العلّة والحكمة والتّعليل بالحكمة"، مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، م ٣١، عدد ٢، ٨٦.
(٢) ينظر: الطحاوي، مختصر اختلاف العلماء، ٢/ ٣٤٨.
(٣) ينظر: السبكي، إبراز الحكم من حديث رفع القلم، ٧٠.

<<  <   >  >>