للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقريبٌ من ذلك أيضًا اجتهاد أبي حنيفة، رحمه الله، في حدِّ سنّ الرشد (الذي يَدفع الوليُّ بموجبه المالَ إلى اليتيم) بما لا يتجاوز خمسًا وعشرين سنة (١)، مع أن الآية الموجِبة للدفع أطلقت إيناس الرشد من اليتيم من غير حدّه بسنّ معينة، لكن رأى أبو حنيفة، رحمه الله، أنّ سنّ خمس وعشرين مظنّة غالبة للرشد فناط الحكم بها، سواء أُنِس الرشد من اليتيم فِعلًا أم لا، وذلك دفعًا لتعسّف الأولياء في ادّعاء عدم رشد اليتيم على ما يبدو.

الحال الثالثة: أن تكون المظنّة والحكمة كلاهما منصوصًا:

وهو كثيرٌ في الشرع، كما ورد النص في رخصة الفطر في رمضان في السفر والمرض لحكمة التيسير. والأمر بالوضوء عند القيام للصلاة لحكمة التطهير، والأمر بالزواج عند الباءة لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وندب الاقتصار على زوجة واحدة لأنه أبعد عن الظلم أو عن الفقر على اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: ٣] (٢)، وتحريم الخمر والميسر للعداوة والبغضاء والصد عن الذكر، وورد تحريم الخمر في السنة معلَّلا بالإسكار، وهو نوع ضبط للحكمة المذكورة في القرآن، لأنّ حصول السكر هو مظنة حصول العداوة والبغضاء والصد عن الصلاة والذكر. والنهي عن السفر بالقرآن مخافة أن يناله العدو، والنهي عن مناجاة اثنين دون الثالث؛ لأنّ ذلك يحزنه، وغير ذلك كثير.

الحال الرابعة: أن تكون المظنّة والحكمة كلاهما اجتهاديًّا:

وهذا إنما يكون في الأحكام غير المنصوص على مظنتها ولا على حكمتها، وهي الأحكام القائمة على الاستصلاح المرسل، كالذي يكون في التنظيمات الإدارية والأحكام الوضعية، كإلزام المفتي والقاضي بالقضاء بمذهب معين أو بالمعتمد منه أو بالقانون، وذلك لحكمة ضبط القضاء ومنع التلاعب به، وإلزام الناس بقواعد المرور والعقاب على تركها، وكذا إلزامهم باستصدار بطاقات الهوية وجوازات السفر ورخص العمل والإقامة وغير ذلك من


(١) السرخسي، المبسوط، ٢٤/ ١٦٢.
(٢) ينظر: الطبري، جامع البيان، ٧/ ٤٥٨.

<<  <   >  >>