للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مزيل من الطاهرات، كالورق وغيره، ومن جهة العدم: قالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ. ولكنّهم، مع ذلك، اشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسَحاتٍ على الأقلّ، وهذا الاشتراط التفاتٌ منهم إلى لفظ التثليث الوارد في المظنّة المنصوصة.

أمَّا الحنفيّة (١) والمالكيّة (٢)، فأداروا الحكم مع حكمة الإنقاء وقطعوه عن المظنة تمامًا، فأجازوا الاستنجاء بكلّ طاهر مزيل، وقالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ، ولم يشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسحات، بل تكفي المسحة الواحدة إذا كانت مُنقية، فالعبرة عندهم بحكمة الإنقاء لا بعين المزيل ولا عدده. فهم أداروا الحكم مع الحكمة بالكُلِّية، وجودًا وعدمًا، لوضوحها وانفرادها، فاجتهادهم في هذه المسألة من الشكل الأول. والشافعيّة والحنابلة أداروه مع الحكمة، ولكنّهم اشترطوا معها شرطًا استمدّوه من المظنة المنصوصة، إمّا احترامًا لظاهر النصَّ، وإمّا لأنَّهم قدَّروا وجود نوعٍ من التعبُّد في الحكم المنصوص. وإمّا لأمر معنوي وهو أنَّ إنقاء الدّبُر يعسر أن يكون بمسحة واحدة، كما يعسر غالبًا التحقّق من حصول الإنقاء في الواقع لغياب موضعه عن نظر المستجمر، فكان الاحتياط ألّا يُجتزأ بأقلَّ من ثلاث مسحات. وهو ملحظٌ وجيه.

المطلب الثالث: العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة في الوقائع:

نظريًّا، التعليلُ بعين الحكمة يَفْضُل التعليل بالمظنة من حيث إنه تعليل بالمقصود من الحكم نفسه، لا بما هو وسيلة إليه، وهذا أدنى إلى تحقيق قصد الشارع من الحكم من غير تفويت له في أيّ جزئية من جزئيّات الحكم.

وفي المقابل التعليل بالمظنة يَفْضُل التعليل بالحكمة من حيث ما يحقِّق من مصالح ثانويةٍ تتمثّل في الضبط مع ما يستبطنه هذا الضبط من التسهيل والاحتياط وقطع النزاع، بالإضافة إلى تحقيق الحكمة والمقصود من الحُكم في معظم الجزئيّات. والتضحيةُ بفوات تحقيق المقصود من الحُكم في بعض الجزئيات؛ نتيجةً للنوط بالمظنة، تُعوِّضُه المصالح الأخرى المترتِّبة على الضبط واطّراد الأحكام.


(١) ابن الهمام، فتح القدير، ١/ ٢١٣.
(٢) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، ١/ ٢٨٩.

<<  <   >  >>