للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولأجل هذا التكافؤ النظري بين نوعي التعليل هذين، كلٌّ من جهة، يتردَّد الفقهاء بينهما في آحاد الوقائع، فمنهم من يعلِّل الحُكم بالحكمة في واقعة، ويخالفه فقيهٌ آخرُ فيعلِّل الحُكمَ بالمظنة في الواقعة نفسها، وأحيانًا يكون للمجتهد الواحد قولان في الواقعة نفسها: أحدُهما دائرٌ مع المظنة، وآخرُ دائرٌ مع الحكمة.

هذا، وإن كان الغالب أن الشارع يعلِّل بالمظانّ المنضبطة، كما ذكر غيرُ أصولي (١)، فتعليله بالحِكَم، وبالأوصاف المطلقة غير المنضبطة بنفسها كلّ الضبط، كثيرٌ أيضًا.

والأمثلة على تردُّد حكم الواقعة بين أن يُجرى مع مقتضى المظنّة، أو مع مقتضى الحكمة - كما مرّ بنا، وسيمرّ أيضًا فيما بقي من هذا البحث - كثيرةٌ جدًّا. وميلُ الفقيه إلى تقرير الحُكم بحسب ما تقتضيه المظنّة (التعليل بالمظنة)، أو ما تقتضيه الحكمة (التعليل بالحكمة)، تؤثِّر فيه عواملُ متعدّدة. ومن الأهميّة بمكان تسليط الضوء على هذه العوامل، ولكن قبل ذلك لابدّ من تحرير محلّ النزاع في التعليل بالحكمة الذي يتعارض مع التعليل بالمظنة؛ إذ تحرير ذلك مقدّمة لا غنى عنها لإدراك مدى تأثير هذه العوامل في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة.

ولذلك جاء هذا المطلب في فرعين:

أحدهما: تحرير محلّ النزاع في التعليل بالحكمة الذي يتعارض مع التعليل بالمظنة.

والفرع الثاني: بيان العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة في الوقائع.

الفرع الأول: تحرير محلّ النزاع في التعليل بالحكمة الذي يتعارض مع التعليل بالمظنّة:

اتّفق الأصوليون - من حيث المبدأ - على جواز التعليل بالمظنة: منصوصةً أو اجتهاديّة. وهم متّفقون - فيما يظهر لنا - على جواز التعليل بالحكمة في ثلاثة مواطن (٢):

أحدها: إذا كان يُقصد بالتعليل مجرّد إبداء المناسبة والمصلحة من غير نوطٍ للحُكم بالحكمة.


(١) ينظر: صالح، "التعليل بالمظنة لا بالحكمة: دراسة أُصولية"، مجلة الصراط، م ٢١، عدد ٣٨، ٥٣.
(٢) ينظر: صالح، "العلّة والحكمة والتّعليل بالحكمة"، مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، م ٣١، عدد ٢، ٩٧.

<<  <   >  >>