للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والموطن الثاني: إذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة، فينطبق عليها ما ينطبق على العلة/ المظنة.

والموطن الثالث: إذا كانت الحكمةُ حكمةً للحُكم المستفاد من خطاب التكليف الابتدائي (أي: غير القائم على سبب)، حتّى لو لم تكن ظاهرة أو منضبطة، ونيط الحكم بها وجودًا، كحكم تحريم السرقة حفظًا للمال؛ فيُقاس عليها في التحريم - لا في وجوب الحد - كلُّ ما يؤدّي إلى تضييع المال، كالنبش، والنشل، والاختلاس … الخ.

واختلفوا في جواز التعليل بالحكمة في موطنين:

أحدهما: في حكمة الحكم الوضعي (حكمة السبب والمانع والشرط) - أو الخطاب التكليفي المترتِّب عليه - هل يجوز تعدية الحكم بها أو لا، وهي ما تُعرف بمسألة القياس في الأسباب، ككقياس النبش والنشل والاختلاس على السرقة في وجوب الحدّ لحكمة الزجر عن تضييع المال، وقياس العمل الشاقّ على السفر في إباحة الفطر في رمضان لحكمة دفع المشقّة، حيث نقل النّاقلون - كما قال الغزالي - عن أبي زيد الدّبوسي (ت ٤٣٠ هـ): «أنَّ الأحكام تتبع الأسباب دون الحِكَم، وأنَّ الأسباب لا تُعلَّل، وأنّ وضع الأسباب بالرأي والقياس لا وجه له، وأنَّ الحكمة ثمرةُ الحُكم ومقصودُه لا علّته» (١). وقال: «ليس إلينا نصبُ الأحكام الشرعية ولا رفعها بالرأي، ولا نصبُ أسبابها، وفي نصب الأسباب نصبٌ للأحكام، ولا شروطِها، ففي نصب الشروط المانعة رفعٌ للأحكام. وإذا لم يكن إلينا ذلك بالرأي بطل تعليلُ مدّعيها لأنّه يُعلِّل للنَّصْب» (٢). وما قاله الدّبوسي يندرج فيما قررَّه شيخ شيوخه الكرخي حين قال: (ت ٣٤٠ هـ): «الأصل أنّه يُفرَّق بين علّة الحُكم وحكمته، فإنَّ علَّته موجِبة وحكمتَه غير موجبة» (٣).

وممّا يخرّجه الأصوليّون على الخلاف في هذه القضية الخلاف بين الجمهور والحنفية في: قياس النبّاش على السارق، في وجوب القطع، واللائط على الزاني، في وجوب الحدّ، والقاتل بالمثقَّل على القاتل بالمحدَّد، في وجوب القصاص.


(١) الغزالي، شفاء الغليل، ٦٠٤.
(٢) الدبوسي، تقويم الأدلة في أصول الفقه، ٢٩٥.
(٣) الكرخي، "أصول الكرخي"، في رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية، ١٢٧.

<<  <   >  >>