للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا التخريج ليس بسديد من وجهة نظرنا؛ إذ يمكن ردُّه لخلافهم في القياس في أسباب الحدود خاصّة، لا في عموم الأسباب، والحدود لها مزية أنها تُدرأ بالشبهة لذلك لم يقبل بعض الحنفية في إثباتها خبر الواحد فضلا عن القياس (١).

وقد لقي القول بمنع القياس في الأسباب نقدًا شديدًا من الأصوليّين غير الحنفية، فوصفه الغزالي بأنّه «فاسد، والبرهان قاطعٌ على أنّ نصب السبب حُكمٌ شرعي، فيُمكن أن تُعقل علته، ويمكن أن يتعدّى إلى سبب آخر» (٢)، وقال ابن تيمية: هو «خلاف ما عليه الفقهاء، وهو قولٌ باطلٌ قطعًا» (٣). قلت: ومما يؤكد فساده وبطلانه إطباقُ القائسين، حتى الحنفيّة، على قياس ما يشوِّش الذهن على الغضب في «لا يقضي القاضي وهو غضبان»، فهو «قياس مظنّة على مظنّة» كما قال ابن دقيق العيد (٤). والفروعُ المنقولة عن أبي حنيفة، رحمه الله، وحاصلها قياس الأسباب على الأسباب، كثيرة، ولكنّ الحنفيّة يعتذرون عنها بأنّها ليست قياسًا وإنّما دلالة نص (مفهوم موافقة)، أو تنقيح مناط (٥)، وإذا كان الأمر كذلك تؤول المسألة إلى خلافٍ في اللفظ والتسمية، ولا ثمرة لها، وهو ما انتهى إليه عددٌ ممن أفرد المسألة بالبحث (٦).

والموطن الثاني: اختلفوا في العلة الغائية (حكمة الحُكم أو حكمة السبب) إذا عادت - بعكسها - على مظنتّها المنصوصة بالتخصيص أو التقييد، سواء أكانت هذه المظنة محلّاً للحكم التكليفي، أم الوضعي، كما حصل في استثناء الشافعي "السفر الآمن" من عموم المظنة (السفر) في حديث النهي عن سفر المرأة إلا بمحرم.

وقد أفردنا مسألة عود العلة على أصلها بالتخصيص هذه بالبحث والتأصيل والتمثيل في كتاب "أثر تعليل النص على دلالته"، وزدناها توضيحًا في بحث "فوائد تعليل الاحكام"، وحاصل القول فيها: إنّه يجوز من حيث المبدأ التخصيص والتقييد بالعلّة، ومع ذلك تظل كلُّ مسألة فقهية خاضعةً لنظر خاصٍّ من المجتهد على حيالها، يعتمد على الموازنة بين قوّة العلة/ الحكمة من جهة، وقوّة شمول العموم/ الإطلاق للمحلّ أو الفرد الذي يُراد إخراجه منه


(١) أبو الحسين البصري، المعتمد، ٢/ ٩٦.
(٢) المستصفى، ٣٢٩ بتصرف.
(٣) ابن تيمية، الصارم المسلول، ٤٨٧.
(٤) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ٢/ ٢٧٢.
(٥) السرخسي، أصول السرخسي، ١/ ٢٤٢.
(٦) ينظر: الربيعة، "القياس في الأسباب"، أضواء الشريعة، عدد ١٢، ٩٣؛ النملة، المهذب في علم أصول الفقه المقارن، ٤/ ١٩٤٦.

<<  <   >  >>