للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الموت بنقيض قصده، مع أن ذلك مخصِّصٌ لظواهر النصوص القاضية بعدم ميراث المبتوتة، ومُخرِجٌ حالَ مرض الموت منها، وكما في جَعْل عمر، رضي الله عنه، وأكثرِ الصحابة، ثبوتَ كامل المهر منوطًا بالخلوة لا بالدخول (١)، وحكمِهم بوفاة المفقود بعد أربع سنين (٢)، وجعْلِهم حدَّ شرب الخمر ثمانين (٣)؛ لأنّ الشارب في مظنة القاذف فأُلحق به، فهو من القياس في المظانّ، وهذا مخالفٌ لما كان عليه الحال في زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، وزمن أبي بكر، رضي الله عنه (٤).

وعند اختلاف الصحابة، فإنّه من الملاحظ أنّ الشافعي، رحمه الله، يَجري - في الغالب - مع المذاهب التي لا يلزم منها تخصيصُ النصوص وتأويلها، حتّى لو كان القائلون بها قلّةٌ من الصحابة خالفوا بها جمهورهم، أو خالفوا مذاهب الخلفاء الراشدين، بخلاف بقيّة الأئمة المجتهدين الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد، عليهم الرحمة، ولذلك لم يَقُل الشافعي بتوريث المبتوتة في مرض الموت (٥)، ولا بالحكم بوفاة المفقود في أربع سنين (٦)، ولا بنقل الدّية إلى أهل الديوان (٧)، ولا بالجلد ثمانين في الخمر (٨)، ولا بثبوت كامل المهر بالخلوة (٩)، وغير ذلك ممّا لو استُقرئ لوجد كثيرًا، ولعلّ هذا كان سببًا في توهّم من قال من الشافعية: إنّ الشافعي لا يحتجّ بأقوال الصحابة، مع أنّ هذا مخالفٌ لما صرَّح به من اعتماده عليها (١٠). ولعلّ الصواب القول إنّه يحتجّ بآثار الصحابة، وبقول جمهورهم، لكن إذا لم تقتض تأويلَ النصّ. والمسائلُ المنقولة آنفًا تخالف أقوالُ جمهورِهم فيها ظاهرَ النصّ، فلعلّه لهذا لم يأخذ بها، رحمه الله. والله أعلم.

خامسًا: مدى الخفاء أو الاضطراب في الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.

الحكمة هي الوصف الحقيقي المقصود من الحُكم، ولكن يَعدِل الشارع عن نوط الحكم بهذا الوصف إذا كان خفيًّا أو مضطِّربًا، إلى نوطه بوصفٍ ظاهرٍ منضبط هو مظنّة له. وهذا العدول لثلاث غايات: التسهيل والاحتياط وقطع النزاع، وقد أفضنا في بيان ذلك في بحثٍ سابق (١١).


(١) عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ٦/ ٣٣٨؛ وصححه الألباني، إرواء الغليل، ٦/ ٣٥٦.
(٢) عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ٧: ٤٧؛ وصححه الألباني، إرواء الغليل، ٦/ ١٥٠.
(٣) مسلم، الصحيح، ٣/ ١٣٣١.
(٤) المرجع السابق.
(٥) الشافعي، الأم، ٥/ ٢٤١.
(٦) المرجع السابق، ١/ ٢٩٩.
(٧) المرجع السابق، ٦/ ١٢٤.
(٨) المرجع السابق، ٧/ ١٩٢.
(٩) المرجع السابق، ٥/ ٢٦٤.
(١٠) العلائي، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، ٣٧.
(١١) صالح، "التعليل بالمظنة لا بالحكمة: دراسة أُصولية"، مجلة الصراط، م ٢١، عدد ٣٨، ٥٩.

<<  <   >  >>