للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أثرٌ كبير في تبنّي جمهور الفقهاء القول بعدم نوط حكم التحريم بمجرّد الإسبال (المظنة)، بل بما يتضمّنه الإسبال عرفًا من معنى الخيلاء (الحكمة).

ثانيًا: وجود نصٍّ صريح يلغي التعليل بالمظنّة أو الحكمة في عين الواقعة:

هذا العامل يؤثّر بطريقة معاكسة للعامل السابق؛ إذ عِوضًا عن تأييد اعتبار المظنة أو الحكمة بالنص، قد يعمد الشارع إلى إلغاء اعتبار التعليل بأحدهما بالنصّ على هذا الإلغاء.

ومن الأمثلة على ذلك عدم اعتبار «الشّبَه» في إلحاق نسب المولود بالزوج أو السيّد؛ إذ ممّا لا شكّ فيه أنّ انقطاع الشبه بين المولود والزوج -كولدٍ أبيضَ لزوجين أسودين أو العكس - وإن لم يكن قاطعًا في انتفاء النسب، فهو مظنّة قويّة للارتياب فيه. ومع هذا فقد ألغاه النبي، صلى الله عليه وسلم، على حياله، حُجّة لإثبات النسب أو نفيه، كما دلّ عليه الحديثان: حديث «لعلّه نزعه عرق» (١)، وحديث ولد زَمْعة: «الولد للفراش» (٢).

ومن الأمثلة أيضًا إعلانُ الكافر لإسلامه مع قيام قرائن عدم صدقه في ذلك، كأن يعلن كلمة الإيمان تحت السيف، فغالب الظنّ أنه أسلم تعوّذًا لإحراز دمه لا إيمانًا. ومع ذلك جاء النص بلزوم العمل بالمظنة (إعلان كلمة الإسلام)، وترك التعويل على الحكمة (حقيقة الإيمان)، كما دلّ عليه حديث أسامة بن زيد، رضي الله عنه، حين قَتل من نطق بكلمة التوحيد خوفًا من السيف، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: «يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله» (٣).

ومنها: تركُ التعويل على ظنّ الإحداث في الصلاة بمجرّد الحسّ الداخلي، من دون سماع صوت ظاهر أو شمّ ريح (٤)، وفي هذا دليل على لزوم ترك العلامة الخفية (مظنة الإحداث)، والتعويل على العلامة الظاهرة القطعية التي يُتيقّن معها من حصول الحكمة (حقيقة الإحداث)، فهو نقل للاعتبار من المظنة إلى المئنة/ الحكمة. وكذلك في الحكم بنجاسة الثوب أو المكان دلّت أدلة شرعية عدّة على اعتبار المئنة/ الحكمة وعدم التعويل على المظانّ.


(١) المرجع السابق، ٧/ ٥٣؛ مسلم، الصحيح، ٢/ ١١٣٧.
(٢) البخاري، الصحيح، ٣/ ٨١؛ مسلم، الصحيح، ٢/ ١٠٨٠.
(٣) البخاري، الصحيح، ٥/ ١٤٤؛ مسلم، الصحيح، ١/ ٩٦.
(٤) ينظر: البخاري، الصحيح، ١/ ٣٩؛ مسلم، الصحيح، ١/ ٢٧٦.

<<  <   >  >>