للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المفهوم من النص في غاية الجلاء، ويبعُد أن تغفله طائفة كبيرة من الصحابة بالكلّيّة وتتشبّث بالألفاظ بجمود، على طريقة الظاهرية.

وكنّا قد أشرنا سالفًا في مقدّمة هذا المطلب إلى مسألة "تأثير تعليل النص على دلالته"، وإلى حاصل القول فيها، فلا نكرّر الكلام هنا.

وأحيانًا تكون المظنة المقول بها اجتهادًا هي المعارضة لظاهر النص لا الحكمة، كما في اجتهاد الجمهور في إناطة ثبوت المهر بالخلوة لا بالدخول، وكما في اجتهاد أبي حنيفة بتقييد إيناس الرشد بسنّ معيّنة على خلاف إطلاق نص الشارع.

وفي هذه الأحوال - عندما تقع الحكمة أو المظنة الاجتهادية - في مقابل ظاهر النص يلجأ المجتهد إلى الموازنة بين الظنّين: الظنّ المستفاد من ظاهر النص، والظنّ المستفاد من الحكمة أو المظنة الاجتهادية، ولا شكّ أنّه لا يصير إلى ما تقتضيه المظنة أو الحكمة إلا إذا وجد إحداهما من القوّة بمكان بحيث تفوق قوّة الظهور في ألفاظ النصّ المقابل لها.

رابعًا: مذاهب الصحابة في الواقعة محلّ النظر، وهل جرت مع المظنّة أو مع الحكمة:

مذاهب الصحابة، رضوان الله عليهم، تحظى بتقديرٍ كبير من الفقهاء، ولا شكّ في أنّ الصحابة إذا اتّفقوا على حكم المسألة، سواء أكان حكمهم سائرًا مع المظنة، أم مع الحكمة، فإنّ الفقهاء يتّبعونه، ولكن الذي يحصل كثيرًا أن تكون أقوالهم مختلفة، أو تُنقل المسألة عن الواحد منهم، أو عن العدد اليسير، من غير تحقُّق من انتشار قولهم وما عساه يكون مؤشِّرا على إجماعهم عليه، وحينئذٍ يتفاوت الفقهاء في العمل بأقوالهم التي تجري مع المظنة أو مع الحكمة، ولاسيّما إذا لزم من هذه الأقوال تأويلُ النصّ الشرعي أو تخصيصه، كمثل اجتهاد عمر، رضي الله عنه، في المؤلّفة قلوبهم (١)، حيث ناط الحُكمَ بحكمةٍ مستنبطة، تخصِّص النص بحالٍ دون أخرى، وكما في اجتهاده، رضي الله عنه، في نقل الدية من العاقلة إلى أهل الديوان (٢)، وهو قياس مظنة على مظنة بحكمة التناصر، وكما في اجتهاد عثمان، رضي الله عنه، بتوريث المبتوتة في مرض الموت (٣)؛ نظرًا إلى الحكمة، وهي معاملة المطلِّق في مرض


(١) قلت: «أخرجه من حكاية عَبيدَة السَّلماني ابنُ أبي شيبة (المصنف: ٦/ ٤٧٣) مختصرا. والبخاري (التاريخ الأوسط: ١/ ٥٦) مختصرا، ويعقوب بن سفيان الفسوي (المعرفة والتاريخ: ٣/ ٢٩٣) … والبيهقي (السنن الكبرى: ٧/ ٣٢)، وابن عساكر (تاريخ دمشق: ٩/ ١٩٥)، «بإسنادٍ صحيح»، كما قال ابن حجر (الإصابة في تمييز الصحابة: ١/ ٢٥٤)» ينظر: صالح، أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه، ٢٣.
(٢) عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ٩/ ١٥٩.
(٣) المرجع السابق، ٧/ ٢٦؛ وصححه الألباني، إرواء الغليل، ٦/ ١٥٩.

<<  <   >  >>