للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن الأمثلة أيضًا نوطُ ثبوت النسب بأسباب ثانوية غير الزواج، كالشهادة والإقرار والقيافة والقرعة ونحوها، وإناطة الحُكم بنفي النسب باللعان، فحكمةُ ثبوت النسب، كما دلّت عليها نصوص الشرع، واتّفق عليها الفقهاء هي البعضية - أو الجزئية - بين الوالد والمولود، أي كون هذا من صلب هذا، {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: ٢٣]، ولكن لما كان يتعذّر الوقوف عليها بعينها لخفائها نيطَ حُكم النسب بأسباب أخرى ظاهرة، كالفراش، وما أُلحق به من أسباب. وفي هذه الأيام أمكن الوقوف على البعضية ذاتها بين المولود والزوج بيقين عن طريق فحص البصمة الوراثية، لذلك ينبغي أن يُعاد النظر في الأحكام الاجتهادية التي لجأ إليها الفقهاء في تقرير أسباب النسب ونفيه؛ لأنهم بنوها على خفاء الحكمة في زمنهم، والحكمة الآن ظاهرة. والحكمة إذا ظهرت وانضبطت نيط الحكم بها لا بمظنتها، وقد قدّمنا في ذلك نظرات فقهية موسّعة، تستند إلى دلائل الشرع وقواعد الأصول ومناهج الفقهاء، في كتاب مستقلٍّ أفردناه لهذا الغرض، فلتُنظر هناك (١).

سادسًا: مدى إفضاء المظنّة إلى الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.

المظنّة - كما أسلفنا - هي المحلّ الذي يغلب فيه وجود الحكمة، ولذلك سُمّيت مظنة؛ لأنّ الحكم يُظنّ عندها. فإذا لم تفض هذه المظنة إلى تحقيق حكمة الحكم ومقصوده في جميع الأفراد والجزئيّات المنضوية تحت الحكم، أو أكثرها، لم تكن مظنّة، وفقدت المزية التي لأجلها ناط الشارع الحكمَ بها، بدلًا عن نوطه بالحكمة ذاتها.

وممّا يقتضيه كونها مظنةً التسليمُ بوجود بعض الجزئيات التي تشملها هذه المظنة بالحكم، ومع ذلك لا يتحقّق فيها المقصود من الحُكم (الحكمة). فهذا لا يلغي كون المظنّة مظنّة، ولا يلغي أيضًا أنّ ثمّة حكمة أخرى سوّغت إمضاء الحُكم على هذه الجزئيات رغم غياب حِكمة هذا الحُكم عنها، وهذه الحكمة هي الضبط بما قد يشمله من التسهيل والاحتياط ورفع النزاع. قال الشيخ عبد الرحمن المعلّمي: «اغتُفر … الإخلال بأصل الحكمة في بعض


(١) صالح، التحقق من النسب بفحص البصمة الوراثية والكشف عن نتائجه العرضية: نظرات فقهية جديدة، ١٤٣.

<<  <   >  >>