للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصف الخفاء إلى وصف الظهور فتحتاج حينئذٍ المسألة إلى إعادة اجتهاد؛ لأنّ الحُكم إنما شُرع للحكمة لا للمظنّة، وأُنيط بالمظنّة في زمن النص أو زمن الفقهاء استثناءً لمصلحة الضبط والتيسير، فإذا أمكن نوطُه بالحكمة مباشرة في الأزمان اللاحقة؛ لأنّها أصبحت ظاهرة منضبطة فهو أولى. قال الآمدي (ت ٦٣١ هـ): «إذا كانت الحكمة - وهي المقصود من شرع الحكم - مساويةً للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها» (١). وقال الزَّنجاني (ت ٦٥٦ هـ): «حيث اعتبرنا صور الأسباب دون مضمونها فذلك لتعذُّر الوقوف والاطّلاع على مضمونها، وإلا فمتى أمكن الاطّلاع على مضمون السّبب فهو المعتبر لا صورة السّبب» (٢). وقال القرافي (ت ٦٨٤ هـ): «القاعدة: أنّه لا يُعدَل إلى المظنّة إلا عند عدم انضباط الوصف [أي الحكمة] دائمًا أو في الأغلب» (٣). وقال ابن تيميّة (ت ٧٢٨ هـ): «المظنّة إنّما تُقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفيّةً، أو غير منضبطة، فأمّا مع ظهورها وانضباطها فلا» (٤). وقال الرّهوني (ت ٧٧٣ هـ): «لو وُجدت حكمة مجرّدة، وكانت ظاهرة منضبطة بحيث يمكن اعتبارها ومعرفتها، جاز اعتبارها وربطُ الأحكام بها على الأصحّ؛ لأنّا نعلم قطعًا أنّها هي المقصودة للشارع، واعتباره المظنّة لمانع خفائها واضطرابها، فإذا زال المانع من اعتبارها، جاز اعتبارها قطعًا» (٥). وقال الونشريسي (ت ٩١٤ هـ): «مَنْعُ التعليل بالحكمة مشروطٌ بالخفاء أو عدم الانضباط. أمّا مع الظهور والانضباط فلا على ما هو المختار» (٦).

ومن الأمثلة على ذلك حكمُ بعض الفقهاء بعدم جواز شقّ بطن المرأة الحامل المتوفّاة لاستخراج الجنين، لأنّ الغالب موتُه بموتها. فناطوا الحكم بالمظنة؛ لأنّ الوقوف على حقيقة حياته لم تكن ممكنة في زمنهم. قال إسحاق بن راهويه (ت ٢٣٨ هـ): «وكيف يجوز ذلك، وليس أحد يستيقن بأنّه ولدٌ حي؟!» (٧)، وأمّا اليوم فلا حاجة لأن يُناط الحكم بالمظنة، بل يُناط بحقيقة الحكمة مباشرة، وهي حياة الجنين، فيُقال إن كان حيًّا، ويمكن إخراجه حيًّا، فيجوز شقُّ بطنها لاستخراجه، وإلا فلا يجوز، ويسهل على الأطباء اليوم تحديد ما إذا كان الجنين في بطنها حيًّا أو ميتًا قبل إجراء عملية الشقّ عن طريق أجهزة السونار.


(١) الآمدي، الإحكام، ٣/ ٢٠٣.
(٢) الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، ٣٠٠.
(٣) القرافي، الفروق، ٢/ ١٧٠.
(٤) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ١/ ٣٤٨.
(٥) الرهوني، تحفة المسؤول، ٤/ ٢٨.
(٦) الونشريسي، المعيار المعرب، ٦/ ٢٩٥.
(٧) الكوسج، مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، ٧/ ٣٧٤٣.

<<  <   >  >>