دون تلك المدّة بخلافها في الزمن القديم، فاعتماد هذه المدّة في ضبط المسافة الآن يرفع الرخصة عن جُلّ ما يُسمّى سفرًا في زمننا، وهو ما لا نخاله مقصودًا للشارع.
وإمّا - وهو ما أميل إليه - يُناط الفطر في السفر بالمشقّة ذاتها ويُترك تقديرها لأمانة المكلَّف، كالمرض تمامًا، فيُقال للمكلّف إن شقّ عليك الصيام في السفر فأفطر وإلا فلا، كما يُقال له: إنْ شقّ عليك الصيام مع المرض أو خشيت الضرر معه فأفطر، فالسفر والمرض رخصتان للفطر وردتا في سياق واحد، وهما معلَّلتان بحكمة واحدة وهي التيسير، فالأولى التسوية بينهما في الحكم. والله أعلم (١).
وهذه المسألة تحتمل بسطًا أكثر من هذا لكن نكتفي بهذا القدر؛ لأنّ المقصود التمثيل، وقدح زناد الفكر الفقهي، لا أكثر.
وما نريد الوصول إليه هنا هو أنّ تغيُّر الأزمان قد يكون ذا أثر في انقلاب المظنّة عن كونها مظنّة بحيث تحتاج هذه المظنة إلى إعادة نظر ومُعايرة جديدة، حتى تظلَّ مظنّة فعلًا تؤدّي وظيفتها في الإفضاء إلى الحكمة غالبًا.
وملخّص القول في هذا العامل أن لمدى إفضاء المظنة إلى الحكمة في واقعة ما أثرًا كبيرًا في مدى التزام الفقهاء بنوط حكم هذه الواقعة بهذه المظنة، أو قطعه عنها، نظرًا إلى انتفاء الحكمة أو مرجوحيّة حصولها. فتقرير هذا القول وبيانه هو الغرض في إيراد ما أوردناه، وإلا فالكلام على مسألة استثناء ما لا تتحقّق فيه الحكمة من حكم المظنة، يستحقّ بسطًا وتفصيلًا أكثر ممّا قيل هنا، وحريٌّ به أن يُفرد بالبحث لتأصيله بالأدلة، وضبطه بالقواعد، وبيان كيفية تنزيله على المستجدّات.
سابعًا: مدى قوّة مناسبة الحكمة لحُكم الواقعة.
رفعُ الحكم عن بعض الجزئيات التي يشملها النص بعمومه لانتفاء الحكمة عنها ليس بالأمر الهيّن، خصوصًا إذا كانت الحكمة مستنبطة لا منصوصة؛ لأنّه من باب ترك ظاهر
(١) ما قلناه هنا ينحصر في سفر رخصة الفطر. وأما سفر رخصة القصر فلا ينطبق عليه ذلك والله أعلم؛ لأنّ حكمة مشروعية القصر في الأصل الخوف لا المشقة، ولأنه لا يستحيل إلى بدل بخلاف الصوم فإنه يُقضى، ولأن القصر عزيمة أو مستحب بالإجماع بخلاف الفطر في السفر. وعليه كان الأولى أن لا يُسوّى سفر القصر بسفر الفطر، بل لو جرى الحكم فيه مع إطلاق اللفظ، كما قال ابن حزم وغيره، لما كان بعيدًا، وثمة دلائل عِدّة تشير إلى ذلك.