وذلك لأنّ حالات قطع المسافة المذكورة بلا مشقّة كانت نادرة في زمنهم فلا تؤثّر لقلّتها في صلاحية المظنّة بأن يُناط بها الحكم، إذ الغالب من حال الناس أيّامئذٍ أنّهم يجدون المشقة في قطع المسافة المذكورة، ولا يضرّ تخلّف الحكمة عن بعض الأفراد؛ ويطّرد الحُكم فيهم جريًا مع المظنّة التي لا يتأثّر عموم حكمها بنوادر التخلُّف. أمّا اليوم فالمسافة المذكورة ليست مظنّة للمشقّة في حقّ معظم الناس إن لم يكن جميعهم، والشارع عندما قرّر هذه الرخصة عَقّبها بقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: ١٨٥]، فمعنى رفع الحرج ملحوظٌ في مشروعية الفطر عند السفر والمرض قطعًا، وعليه انبنى تقييدُ الصحابة والفقهاء السفرَ المبيحَ للرخصة بالطول وإن اختلفوا في تقدير ذلك.
فالفرق بين زمننا وزمن الفقهاء، أنّ المسافة التي حدّدوها كانت مظنة للمشقّة في وقتهم وتخلُّف المشقّة عن قطعها كان نادرًا، أمّا في زمننا فهذه المسافة لم تعد مظنة للمشقة أصلًا، وما كان في زمنهم يُعدّ من النوادر صار الآن هو الأصلَ والغالبَ، ولذلك اقتضت المسألة إعادة نظر، ولا يحسن بنا أن نلتزم بأحكام الفروع التي سطّرها الفقهاء دون الالتفات إلى القواعد التي بنوا عليها أحكام تلك الفروع، فالفروع كثيرًا ما تتّسم أحكامها بالتغيُّر والتقلُّب بتغير الأزمان بخلاف القواعد التي تتّسم بالثبات.
ومما قد يُقترح في هذه المسألة خاصّة:
إمّا إعادة تقدير المسافة المبيحة للرخصة وزيادتها إذ ليست هي توقيفًا بدليل كثرة اختلاف أقاويل السلف في تقديرها.
وإمّا - ولعلَّه أفضل ممّا سبق - نوطُ الحكم بمدّة السفر لا بمسافته، وهذه طريقة الحنفية في تقدير المسافة، ولذلك فالمسافة الموجبة للرخصة عندهم تختلف في الطريق الوعر عنها في الطريق السهل، وفي البحر عنها في البر، لكن المدّة التي حدّدوها لضبط المسافة (مسيرة ثلاثة أيام) ملائمة في طولها لعصرهم لا لعصرنا؛ لأنّ معظم الأسفار في عصرنا هي