للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أي أنّ المظنّة لم تعد مُفضيةً إلى الحكمة التي شرعت لأجلها بعد أن كانت كذلك سابقًا، ومن ثَمّ يرتفع حُكم النصّ عنها، وهو ندب اتخاذها، ويرجع حكمها إلى الأصل، وهو الإباحة.

ومثال ذلك، أيضًا، حكمُ الفطر في السفر، إذ جاء السفر مطلقًا في القرآن الكريم، منصوصَ الحكمة وهي التيسير، فرأى جمهور الصحابة - نظرًا إلى الحكمة - تقييدَ هذا الإطلاق بالسفر الطويل، واختلفوا في حدّ الطول على أقوالٍ كثيرة بلَّغها بعضهم نحو عشرين قولًا (١)، وارتضى كثيرٌ من الفقهاء من هذه الأقوال القولُ بأنه سفرُ مسافةِ أربعة بُرُد (٨٥ كم)؛ لأنَّ هذه المسافة مظنّة للمشقّة فعلًا، وما دونها ليس كذلك. وهذا الاجتهاد من الصحابة، رضوان الله عليهم، ومن تبعهم من الأئمة الفقهاء، هو من باب تقييد النصّ المطلق بالحكمة المستفادة منه، وهو ضربٌ شائع في اجتهاد الصحابة والأئمة الفقهاء، كما بينّاه في "أثر تعليل النص على دلالته" (٢).

وإذا كان سفر أربعة بُرُد (٨٥ كم) مظنة للمشقة فعلًا في زمن الصحابة والفقهاء، ومن بعدهم إلى قريب عصرنا في حقّ معظم الناس، فإنّه - بلا ريب - لم يعد كذلك الآن؛ لأن المسافة المذكورة تُقطع في أقلّ من ساعة بالسيارة في أوقاتنا هذه، في حين كانت في زمن الصحابة والفقهاء تُقطع في يومين أو ثلاثة أيام بلياليها. وعليه احتاجت المسألة إلى إعادة نظر في ضابط السفر المبيح لرخصة الفطر، لأنّه، وكما قلنا، إذا لم تفض المظنة إلى الحكمة غالبًا لا يصحّ وصفها بأنها مظنّتها، ومن ثَمّ فإنّ شرع الحكم معها يعني فقدان حكمته ومقصوده في غالب الأفراد، لا في بعضهم فحسب، كما كان الحال في زمن النصّ وزمن الفقهاء.

ولا يُقال هنا: إنّ الفقهاء والأصوليين نصُّوا على أنّ الحكم في مسألة السفر يدور مع المسافة بغض النظر عن المشقّة، فتُشرع الرخصة في حقّ من قطع المسافة المذكورة بلحظة كمن يستعين بالجنّ مثلا، أو من كان مرفَّهًا في سفره كالملِك المحمول.


(١) ابن حجر، فتح الباري، ٢/ ٥٥٦.
(٢) صالح، أثر تعليل النص على دلالته، ٨١.

<<  <   >  >>