للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومثال ذلك أيضًا بعض العقود والإيقاعات، كالنكاح والطلاق، فأبو حنيفة، رحمه الله، يصحِّحها إذا وجدت المظنة، وهي الصيغة، حتى لو انتفت الحكمة التي لأجلها اعتُبرت الصيغة، وهي الرضا، كما في حالات الإكراه؛ لأنه يلتزم المظنة، وهي موجودة ولا يلتفت إلى الحكمة وإن انتفت قطعًا. أمّا الجمهور فيستثنون الحالات التي يختلُّ فيها الرضا قطعًا، فلا يصحِّحون هذه العقود والإيقاعات. قال ابن الهمام من الحنفية: «وجميعُ ما يثبت مع الإكراه أحكامُهُ عشرةُ تصرُّفات: النكاح، والطلاق، والرجعة، والإيلاء، والفيء، والظّهار، والعِتاق، والعفو عن القصاص، واليمين، والنَّذر» (١). وقال التاج السبكي: «جَهِدَ أصحاب الرأي من حيث لا يشعرون فعمَّموا القول بأنّ صور الأسباب الشرعية هي المعتبرة في الأحكام دون معانيها، وإن وضُحت وضوح الشمس. وخصَّص الإمام المطلبي، رضي الله عنه، ذلك بالصور التي تضطرب معانيها، أو تخفى، أو تدقّ عن الأفهام، وتوجب مزيد الخبط؛ رفعًا للتشاجر؛ كيلا يتسع الخرق بزوال الضبط، وحملًا للحنيفية السمحة فيما هذا شأنه، وانسحابًا على المعاني، وإظهارًا للحِكَم فيما يلوح وجهُه» (٢).

وفي هذا الصدد تنبغي الإشارة إلى أنّ عامل الزمن قد يؤثِّر في مدى إفضاء المظنة إلى الحكمة في بعض الوقائع، فقد تكون المظنة مفضية إلى الحكمة غالبًا في زمن النص إذا كانت هذه المظنة منصوصة، أو في زمن الفقهاء إذا كانت اجتهادية، لكنّها بتغير الزمان والأحوال يقلُّ إفضاؤها إلى الحكمة أو ينعدم، فهاهنا يجدر إعادة الاجتهاد في نوط الحكم بهذه المظنة.

ومثال ذلك الأمر بإعداد رباط الخيل المنصوص عليه في القرآن، وما جاء في السنة في فضل اتخاذ الخيل وتربيتها والإنفاق عليها (٣)، والحكمة هو أنّها كانت وسيلة حاسمة ومهمّة في الجهاد وتحقيق النصر {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: ٦٠]، أمّا اليوم فلم تعد الخيل وسيلةً فاعلة في الحرب،


(١) فتح القدير، ٣/ ٤٨٩.
(٢) الأشباه والنظائر، ٢/ ١٧٦.
(٣) ينظر: الأعظمي، الجامع الكامل في الحديث الصحيح الشامل، ٧/ ٢٨٢.

<<  <   >  >>