للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثانيًا: أنّه، حتّى لو لم تتحقّق فيهم حكمة الحُكم نفسه، فإنّه خَلَفتها حكمةٌ أخرى اقتضت شمولهم بهذا الحكم، وهي الضبط، وما ينطوي عليه من التسهيل والاحتياط وقطع النزاع.

ومع التسليم بما سبق من حيث الجملة فالأصوليّون يختلفون في بعض الجزئيات والأفرادِ الذين تشملهم المظنة ولا تشملهم الحكمة: هل يُستثنون من حكم المظنة لعدم وجود الحكمة أو لا. وهذه الجزئيّات هي التي تغيب عنها حكمةُ الحُكم على وجه اليقين، أي أنّه لا احتمال لحصول الحكمة فيها البتة.

وجمهورهم على أنّ هذه الجزئيّات الفاقدة للحكمة قطعًا تُستثنى من حُكم المظنة ويُرفع عنها، وخالف في ذلك الحنفية فالحُكم عندهم يدور مع المظنّة، حتى لو انتفت الحكمة يقينًا عن الفرد الجزئي محلّ الخلاف. قال الآمدي (ت: ٦٣١ هـ): «المقصود من شرع الأحكام الحِكَم فَشرْعُ الأحكام مع انتفاء الحكمة يقينًا لا يكون مفيدًا، فلا يَرِد به الشرع خلافًا لأصحاب أبي حنيفة» (١).

ويمثّل الاصوليون لذلك بالمسألة المشهورة: نكاح المشرقي للمغربيّة (أي نكاح من كان بالمشرق لمن هي بالمغرب بالوكالة من دون لقاء) فالجمهور لا يثبتون نسب الولد إذا أتت به المغربيّة لعدم إمكان اللقاء بينها وبين زوجها، فحِكمة البعضيّة التي يدلّ عليها إمكان الوطء بينهما منتفيةٌ قطعًا في هذه الحالة. أمّا أبو حنيفة فينيطُ حكمَ النسب بعقد النكاح نفسه، سواء انتفت اللقيا قطعًا أم لا. وشبيهٌ بهذه المسألة أيضًا من تزوّج وطلّق في المجلس نفسه بحضرة القاضي والشهود، وكذا من قال لامرأة إذا تزوجتك فأنت طالق، فتطلُق فورَ تزوّجها، فالجمهور لا يثبتون نسب ولدها من هذا الزوج للقطع بعدم حصول الجماع بينهما، في حين أنّ أبا حنيفة، رحمه الله، يثبت النسب في هذه الحالات إذا جاءت المرأة بالولد في مُدّة الحمل، وذلك نظرًا إلى وجود العقد (٢).


(١) الإحكام، ٣/ ٢٧٣.
(٢) المرجع السابق؛ الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، ٣٠٢؛ ابن السبكي، الأشباه والنظائر، ٢/ ١٧٦؛ الزركشي، البحر المحيط، ٤/ ٢٩٤؛ ابن أمير حاج، التقرير والتحبير، ٣/ ١٤٦.

<<  <   >  >>