للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن الأمثلة على إلغاء اعتبار التعليل بالحكمة في بعض المواطن ما دلّ النصُّ على بقائه من الأحكام بعد زوال حكمته التي شرُع لأجلها ابتداء، وذلك كرَمَله واضطباعه، صلى الله عليه وسلم، في حجّة الوداع، ولم يكن يومئذٍ بمكة مشرك، فدلّ ذلك على إلغاء التعليل بالحكمة التي شُرع الرمل والاضطباع لأجلها في عمرة القضية، وهي إظهار القوّة والجلَد للمشركين (١).

ومن ذلك أيضًا: إلغاءُ التعليل بحكمة الخوف التي لأجلها شُرع القصر في السفر: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: ١٠١]، وذلك لاستمرار فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، القصر، حتى مع ارتفاع الخوف، ولقوله حين روجع في ذلك: «صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» (٢).

ومما يجدر التنبيه إليه هنا أنّ زوال الحكمة في هذه الوقائع لا يعني أنّ الحكم استمرّ من غير حكمة مطلقًا، فهذا غير وارد لأنّ الشارع حكيم، بل كلُّ ما في الأمر أنّ الحُكم شرُع ابتداءً لحكمة معيّنة ثمّ استمرّ لحكمةٍ أخرى خَلَفتِ الحكمةَ الأولى.

ثالثًا: مدى احتياج التعليل بالمظنّة، أو بالحكمة، إلى تأويل ظاهر النصّ أو تخصيصه:

قد لا يلزم أن تكون المظنة أو الحكمة المقول بهما اجتهادًا واقعتين في مقابل نصٍّ صريح، بل في مقابل نصٍّ ظاهرٍ أو عام. وحينئذٍ تتباين مسالكُ الفقهاء في اتّباع أيٍّ منهما.

ومثال ذلك حادثة الأمر بالصلاة في بني قريظة المشهورة (٣)، فمن اعتبر الحكمة نظر إلى الإسراع فصلى في الطريق عندما خشي فوات الوقت فاستثنى من عموم النص في الأحوال هذه الحالة، ومن لم يعتبر الحكمة لمعارضتها ظاهر النص صلّى في بني قريظة ولو خارج الوقت، أو يُقال بأنّه رأى أنّ النزول إلى الصلاة في الطريق مع ما يستلزمه من التأخير، ولو يسيرًا، يفوّت حكمة الإسراع ولو جزئيًّا. وحينئذٍ يكون الخلاف بين الطرفين لا لمجرّد التعارض بين اللفظ والمعنى، كما درج كثيرون على ذكره، وإنما بسبب اختلاف وجهة النظر فيما يحقِّق الحكمة على التمام أو ينتقصها بعض الشيء. وهو ما نرجّحه لأنّ معنى الإسراع


(١) البخاري، الصحيح، ٢/ ١٥٩؛ مسلم، الصحيح، ٢/ ٩٢٣.
(٢) مسلم، الصحيح، ١/ ٤٧٨.
(٣) البخاري، الصحيح، ٢/ ١٥؛ مسلم، الصحيح، ٣/ ١٣٩١.

<<  <   >  >>