للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحِكَم، في اتّصافها بالخفاء أو الاضطراب، طرفان وواسطة:

فمنها حِكَمٌ ظاهرة منضبطة يتّفق أكثر الفقهاء على نوط الحكم بها وجودًا وعدمًا، كحكمة الإسكار في الخمر، وحكمة الإنقاء في الاستجمار، وحكمة تطهير الأسنان في الاستياك، وحكمة إرهاب العدوّ في الأمر بإعداد القوة ورباط الخيل، وغير ذلك من الحِكَم التي يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا.

ومنها حِكَمٌ غايةٌ في الخفاء أو الاضطراب، لذلك يتّفق الفقهاء على عدم نوط الحكم بها في ذاتها، بل بمظنّتها، كوصف الرضا في العقود، والعمدية في القتل الموجب للقصاص، والمشقّة في رخصة الإفطار، والزجر في وجوب الحدود.

ومنها حِكَمٌ هي في الوسط، ولذلك يختلف الفقهاء بين نوط الحكم بها مباشرة، أو بمظنتها:

كحكمة ثبوت كامل المهر هل يكون بالخلوة أو الوطء، لأنّ الوطء مما لا خفاء فيه في ذاته، بل هو ظاهر منضبط علّق الشارع به كثيرًا من الأحكام، كوجوب الغسل، ووجوب الحدّ، وغير ذلك، ولكن في موضوع ثبوت المهر احتيج إلى ظهورٍ يمكن إثباته عند تنازع الزوجين - أو ورثة أحدهما - فيه بين منكر ومثبت، والوطء ممّا يعسر إثباته بالبيّنة عند النّزاع، ولذلك أُقيمت الخلوة مقامه عند الجمهور؛ لأنّها ممّا يتيسّر إثباتها بالبيّنة عند الإنكار (١).

ومن ذلك أيضًا حكمة الشهوة - أو اللّذة - التي علّق بها المالكية (٢) والحنابلة (٣) حكمَ نقض الوضوء؛ إذ كثيرًا ما يختلط أمرها على المكلّف، ولذلك علّق الشافعيّة (٤) الحكم بمظنّتها لا بعينها، وهو لمس من هنّ مظنّة للشهوة من النساء، سواء حصلت الشهوة أم لم تحصل.

ومما تجدر الإشارة إليه هاهنا أن الحكمة قد تكون خفيّة أو مضطربة في زمن النص، أو بعده، فينيط الشارع أو الفقهاء الحكم بمظنّتها، ولكن بتغيّر الزمن تنقلب هذه الحكمة من


(١) ينظر: ابن رجب، القواعد، ٣/ ١٣٢؛ ابن قدامة، المغني، ٨/ ١٠٠.
(٢) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، ١/ ٢٩٦.
(٣) البهوتي، كشاف القناع، ١/ ٣٠١.
(٤) الشربيني، مغني المحتاج، ١/ ١٤٥.

<<  <   >  >>