للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والشكل الثالث: أن يُبقوا الحكم دائرًا مع المظنّة المنصوصة لا مع الحكمة، ولكن يشترطون في المظنّة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى الحكمة.

ومثاله حكم إباحة الفِطر في رمضان مع السّفر، أداروا الحكم مع السّفر لا مع المشقَّة، فلم يجيزوا للحمَّالين وأصحاب المهن الشاقَّة الفطر كالمسافر (١)، ومع هذا فإنّهم، في جمهورهم، قيَّدوا السّفر المبيح للفطر بكونه طويلًا، وضبطوا طوله: إمّا بمسافة معيّنة، كأربعة بُرُد، وإمّا بمسافة تُقطع في مدّة معيّنة، كمسيرة ثلاثة أيام، أو يوم وليلة، وذلك التفاتًا إلى معنى المشقّة (٢). وكذلك المرض المبيح للفطر ضبطوه بكونه يشقّ، أو يضرّ، معه الصوم، حالًا أو مآلًا (٣).

ومثاله أيضًا: حكم نقض الوضوء بلمس المرأة عند الجمهور، فالسّبب المنصوص هو مطلق لمس النِّساء، ومع هذا فقد اشترط الفقهاء في هذا اللمس شروطًا لكي يكون مظنّةً للحِكمة، أي للمعنى المناسب لحصول الانتقاض بلمس لمرأة، وهو الشهوة، فاشترط المالكية (٤) والحنابلة (٥) وجودَ الشهوة (اللذة) أو قصدَها، واشترط الحنفية (٦) وجودَ المسّ الفاحش، أي مباشرة الجسد الجسد، إذ المعتبر عندهم شهوة قويّة تكون مظنة لخروج المذي لا أي شهوة، واشترط الشافعيّة (٧) أن تكون المرأة من اللاتي يُقصدن باللمس للالتذاذ والشهوة عادةً، فلم يعتبروا لمس الصغيرات، ولا لمس المحارم، لأنّهنّ لسن مظنّة للشهوة. وكلُّ هذه الاشتراطات - على تفاوتها - تلتفت في نهاية المطاف إلى حكمة الحُكم بنقض الوضوء من لمس المرأة، وهو أنّه مظنّة للشهوة والالتذاذ.

والشكل الرابع: وهو عكس السابق: أن يديروا الحُكم مع الحكمة لا مع المظنّة المنصوصة، ولكن يشترطون مع تحقُّق الحكمة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى المظنّة المنصوصة.

ومثال ذلك اجتهاد الشافعيّة (٨) والحنابلة (٩) في حديث الاستنجاء أنه، صلى الله عليه وسلم، «أمر بثلاثة أحجار» (١٠)، فقد أداروا الحكم على إنقاء المحلّ من النجاسة (الحكمة)، ولم يديروه على استعمال الثلاثة أحجار (المظنة)، فمن جهة الوجود: قاسوا على الحجارة كلّ


(١) ينظر: ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، ٢/ ٤٢٠؛ البكري الدمياطي، إعانة الطالبين، ٢/ ٢٦٧؛ البهوتي، دقائق أولي النهى، ١/ ٤٧٨؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، ١٧/ ١٧٦.
(٢) ينظر: ابن قدامة، المغني، ٣/ ١٠٦؛ ابن الهمام، فتح القدير، ٢/ ٣٠.
(٣) ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، ٣/ ١٣٨؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، ٢٨/ ٤٥.
(٤) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، ١/ ٢٩٦.
(٥) البهوتي، كشاف القناع، ١/ ٣٠١.
(٦) الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، ١/ ١٢.
(٧) الشربيني، مغني المحتاج، ١/ ١٤٥.
(٨) المرجع السابق، ١/ ١٦٣.
(٩) البهوتي، كشاف القناع، ١/ ١٣٩.
(١٠) أبو داود، سنن أبي داود، ١/ ٢٠٨. قواه الارناؤوط وحسنه الالباني.

<<  <   >  >>