للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عامّة الناس … وأمّا ما ذُكر في الكتاب عن سعيد بن المسيب ومعمر راوي الحديث أنّهما كانا يحتكران، فقال ابن عبد البر وآخرون: إنّما كانا يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء. وكذا حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون، وهو الصحيح» (١).

وقال الصنعاني (ت ١١٨٢ هـ): «ظاهر حديث مسلم تحريم الاحتكار للطعام وغيره … وقد ذهب أبو يوسف إلى عمومه، فقال: كلّ ما أضرّ بالناس حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبًا أو ثيابًا. وقيل: لا احتكار إلا في قوت الناس وقوت البهائم، وهو قول الهادوية والشافعية، ولا يخفى أنّ الأحاديث الواردة في منع الاحتكار وردت مطلقة … وهذا يقتضي أنّه يُعمل بالمطلق في منع الاحتكار مطلقًا، ولا يُقيَّد بالقُوْتَين … وكأنّ الجمهور خصّوه بالقُوتين نظرًا إلى الحكمة المناسبة للتحريم، وهي دفع الضرر عن عامّة الناس، والأغلب في دفع الضرر عن العامّة إنّما يكون في القُوتين، فقيَّدوا الإطلاق بالحكمة المناسبة» (٢).

قلت: ولا تخفى وجاهة قول أبي يوسف، رحمه الله، بالسير مع المظنة على إطلاقها في النص من دون تخصيص بالأقوات، لأنَّ الحكمة التي استند إليها الجمهور، وإن كان واضحًا حصولها في الأقوات لحاجة عامّة الناس لها، لكنّها أيضًا يمكن أن تتحقّق في غيرها من السلع التي قد يحتاجها بعض الناس لا أكثرهم أو جميعهم، إذ الضرر واقعٌ على هؤلاء من احتكار ما ليس قوتًا، وحتى غير المحتاج للسلعة، وإنما هي له كمال، يقع عليه ضرر من احتكارها، بسبب غلاء سعرها نتيجة للاحتكار بلا بدّ. وقصرُ الحكمة على ضرر عامّة الناس واستثناء الضرر الحاصل لبعضهم تحكُّم، لأنّ الضرر في الشريعة يُزال كلُّه، لا فرق فيه بين ضرر عام وضرر خاص إلا عند الموازنة بينهما إذا حصل تعارض، وأمّا حيث أمكن دفع الضررين كليهما فهو أولى، فكيف إذا كان هذا الأولى في الرأي منسجمًا مع ظاهر النص، فهو مزيد قوّة على قوّة، وظاهرُ النص إذا كان يحتمل معنى مناسبًا صحيحًا فإنّه يبعد إسقاطه بمعنى مناسب آخر استنادًا إلى محض الرأي. والحاصلُ أنّ تعليل الاحتكار بالإضرار بعامّة الناس ضعيف، والأولى تعليله بالإضرار مطلقًا، ولو بطائفة من الناس. والله أعلم.


(١) شرح صحيح مسلم، ١١/ ٤٣.
(٢) سبل السلام، ٢/ ٣٣.

<<  <   >  >>