فيها الشمع فاستدار المحراب كله واوقدت الثريا المغصنة ذات الفواكه، وأمعن الاحتفال في هذا كله ووضع بمقربة من الحراب منبر مجلل بكسوة مجزعة مختلفة الألوان وحضر الإمام الطفل فصل التروايح وختم وقد انحشد أهل المسجد الحرام إليه رجالا ونساء وهو في محرابه لا يكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به.
ثم برز من محرابه رافلا في أفخر ثيابه بهيبة إمامية وسكينة غلامية مكحل العينين مخضوب الكفين إلى الزندين فلم يستطع الخلوص إلى مبنره من كثرة الزحام فأخذه أحد سدنة تلك الناحية في ذراعه حتى القاه على ذروة منبره فاستوى مبتسما وأشار على الحاضرين مسلما. وقعد بين يديه قراء فابتدروا القراءة على لسان واحد فلما اكملوا عشرا من القرآن قام الخطيب فصدع بخطبة يحرك لها أكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أنوار الشمع في أيديهم ويرفعون اصواتهم بيارب يا رب عند كل فصل من فصول الخطبة يكررون ذلك والقراء يبتدرون القراءة في أثناء ذلك فيسكت الخيطب إلى أن يفرغوا ثم يعود لخطبته وتمادى فيها متصرفا في فنون من التذكير.
وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق كرمه الله فحسر عن ذراعيه مشيرا إليه وأردفه بذكر زمزم والمقام فاشار إليهما بكلتا اصبعيه ثم ختمها يتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء ثم نزل وانفض ذلك الجمع العظيم وقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وإن لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل والتذكرة إذا خرجت من اللسإن لم تتعد مسافة الآذان. ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع كالقاضي وسواه خصوا بطعام حفيل وحلوا على عادتهم في مثل هذا المجتمع وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ما ذكر.