وإما سميع وإما أصم، وإما أعمى وإما بصير، بل وكذلك كل موجودين فإما أن يكونا متجانسين، وإما أن يكونا متباينين وأمثال هذه القضايا.
وكل من رام سلب هذين جميعا كان من جنس القرامطة الرافعة للنقيضين لكن التناقض قد يظهر باللفظ كما إذا قلنا إما أن يكون وإما أن لا يكون وقد يظهر بالمعنى كما إذا قلنا إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع، بل وقد زدنا في جواب السائل عما هو مقصوده لكن نبهنا على أصول نافعة جامعة.
الطريق الثالث لأهل النظر في إثبات السمع والبصر أن السمع والبصر من صفات الكمال فإن الحي السميع البصير أكمل من حي ليس بسميع ولا بصير كما أن الموجود الحي أكمل من موجود ليس بحي، والموجود العالم أكمل من موجود ليس بعالم، وهذا معلوم بضرورة العقل، وإذا كانت صفة كمال فلو لم يتصف الرب بها لكان ناقصا والله منزه عن كل نقص، وكل كمال محض لا نقص فيه فهو جائز عليه، وما كان جائزا عليه من صفات الكمال فهو ثابت له فإنه لو لم يتصف به لكان ثبوته له موقوفا على غير نفسه فيكون مفتقرا إلى غيره في ثبوت الكمال له وهذا ممتنع إذا لم يتوقف كمال إلا على نفسه فيلزم من ثبوت نفسه ثبوت الكمال لها وكل ما ينزه عنه فإنه يستلزم نقصا يجب تنزيهه له.
وأيضا فلو لم يتصف بهذا الكلام لكان السميع البصير من مخلوقاته أكمل منه.
ومن المعلوم في بداهة العقول أن المخلوق لا يكون أكمل من الخالق إذ الكمال لا يكون إلا بأمر وجودي والعدم المحض ليس فيه كمال وكل موجود للمخلوق فالله خالقه ويمتنع أن يكون الوجود الناقص مبدعا وفاعلا للوجود الكامل إذ من المستقر في بداهة العقول أن وجود العلة أكمل من وجود المعلول دع وجود الخالق الباري الصانع فإنه من المعلوم بالاضطرار أنه أكمل من وجود المخلوق المصنوع المفعول.
وقد بسطنا الكلام على مثل هذه الطريقة في غير هذا الموضع وبينا أن الله سبحانه وتعالى يستعمل في حقه قياس الأولى كما جاء بذلك القرآن وهو الطريق التي كان يسلكها السلف والأئمة كأحمد وغيره من الأئمة، فكل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص ينزه عنه المخلوق فالخالق أولى أن ينزه عنه، كما قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ