للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نفسه بأمور تظهر على وجهه قد لا يمكنه التعبير عنها كما قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ «١» ثم قال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ «٢» فأقسم أنه لا بد أن يعرف المنافقين في لحن القول، وعلق معرفتهم بالسيماء على المشيئة لأن ظهور ما في نفس الإنسان من كلامه أبين من ظهوره على صفحات وجهه، وقد قيل: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، فإذا كان مثل هذا يعلم به ما في نفس الإنسان من غير إخبار فإذا اقترن بذلك إخباره كان أولى بحصول العلم، ولا يقول عاقل من العقلاء: إن مجرد خبر الواحد أو خبر كل واحد يفيد العلم بل ولا خبر كل خمسة أو عشرة، بل قد يخبر ألف أو أكثر من ألف ويكونون كاذبين إذا كانوا متواطئين، وإذا كان صدق المخبر أو كذبه يعلم بما يقترن به من القرائن بل في لحن قوله وصفحات وجهه، ويحصل بذلك علم ضروري لا يمكن للمرء أن يدفعه عن نفسه فكيف بدعوى المدعي إنه رسول الله؟

كيف يخفى صدقه وكذبه أم كيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة لا تعد ولا تحصى؟

وإذا كان الكاذب إنما يأتي من وجهين إما أن يتعمد الكذب وإما أن يلبس عليه كمن يأتيه الشيطان، فمن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من الناس من يعلم منه إنه لا يتعمد الكذب بل كثير ممن خبره الناس وجربوه من شيوخهم ومعامليهم يعلمون منهم علما قاطعا إنهم لا يتعمدون الكذب وإن كانوا يعلمون أن ذلك ممكن فليس كل ما علم إمكانه جوّز وقوعه، فإنّا نعلم أنّ الله قادر على قلب الجبال ياقوتا والبحار دما.

ونعلم إنه لا يفعل ذلك ونعلم من حال البشر من حيث الجملة إنه يجوز أن يكون أحدهم يهوديّا ونصرانيّا ونحو ذلك.

ونعلم مع هذا أن هذا لم يقع من الأشخاص، وإن من أخبرنا بوقوعه منهم كذبناه قطعا.

ونحن لا ننكر أن الرجل قد يتغير ويصير متعمد الكذب بعد أن لم يكن كذلك لكن إذا استحال وتغير ظهر ذلك لمن يخبره ويطلع على أموره.

ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي: «إني قد خشيت على عقلي» فقالت: «كلا والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري


(١) سورة محمد، الآية: ٣٠.
(٢) سورة محمد، الآية: ٣٠.

<<  <   >  >>