فهذه صفة الشعراء كما أن تلك صفة من تنزل عليه الشياطين، فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله علم علما يقينيا أنه ليس بشاعر ولا كاهن ولا كاذب.
والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعين للصناعات والمقالات كالفلاحة والنساجة والكتابة، وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك، فما من أحد يدعي العلم بصناعة أو مقالة إلا والتفريق في ذلك بين الصادق والكاذب له وجوه كثيرة، وكذلك من أظهر قصدا وعملا كمن يظهر الديانة والأمانة والنصيحة والمحبة وأمثال ذلك من الأخلاق فإنه لا بد أن يتبين صدقه وكذبه من وجوه متعددة.
والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب، ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب من وجوه كثيرة لا سيما والعالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا، وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون وما كانوا يدعون إليه ويأمرون به، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض ولم يزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل ويفرقون به بين الرسل وغير الرسل.
فلو قدر أن رجلا جاء في زمان إمكان بعث الرسل وأمر بالشرك وعبادة الأوثان وإباحة الفواحش والظلم والكذب، ولم يأمر بعبادة الله ولا بالإيمان باليوم الآخر هل كان مثل هذا يحتاج أن يطالب بمعجزة أو يشك في كذبه أنه نبي، ولو قدر أنه أتى بما يظن أنه معجزة لعلم أنه من جنس المخاريق أو الفتن والمحنة، ولهذا لما كان الدجال يدعي الإلهية لم يكن ما يأتي به دالّا على صدقه للعلم بأن دعواه ممتنعة في نفسها وأنه كذاب، وكذلك من نشأ في بني إسرائيل معروفا بينهم بالصدق والبر والتقوى بحيث قد خبر خبرة باطنة يعلم منها تمام عقله ودينه، ثم أخبر بأن الله نبأه وأرسله إليهم فإن هذا لا يكون أولى بالرد من أن يخبرنا الرجل الذي لا يشك في عقله ودينه وصدقه إنه رأى رؤيا.
وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه تنازع الناس في أن خبر الواحد هل يجوز أن يقترن به من القرائن والضمائم ما يفيد معه العلم، ولا ريب أن المحققين من كل طائفة على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري بخبر المخبر، بل القرائن وحدها قد تفيد العلم الضروري كما يعرف الرجل رضاء الرجل وغضبه وحبه وبغضه وفرحه وحزنه وغير ذلك ممّا في