وقال الحافظ الإمام فضل الله التوربشتي الحنفي في "شرحه على المصابيح". قلت: وقد كان هذا الصنيع - إشعار الهدي - معمولاً به قبل الإسلام، وذلك لأن القوم كانوا أصحاب غارات لا يتناهون عن الغصب والنهب، ولا يتماسكون عنه، وكانوا مع ذلك يعظمون البيت، وما أهدي إليه، ولا يرون التعرض لمن حجه أو اعتمره، فكانوا يعلمون الهدايا بالاشعار والتقليد، وذلك بأن يقلدوها نعلاً، أو عروة، أو مزادة، أو لحاء شجرة، لئلا يتعرض لها متعرض، فلما جاء الله بالاسلام أقر ذلك، لغير المعنى الذي ذكرناه، بل ليكون مشعراً بخروج ما أشعر عن ملك من يتقرب إلى الله تعالى، وليعلم أنه هدي، فإن نفر لم يركب، ولم يحلب، ولم يختلط بالأموال، ولم يتصرف فيه، كما يتصرف في اللقطة، وإن عطب لم يؤكل منه، إلا على الوجه الذي شرع. هذا، وقد اختلف في الاشعار بالطعن، وباسالة الدم، فرآه الجمهور، ونفر عنه نفر يسير، وقد صادفت بعض علماء الحديث يشدد في النكير على من يأباه، حتى أفضى به مقاله إلى الطعن فيه، والادعاء بأنه عاند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبول سنته، ويغفر الله لهذا الفرح بما عنده، كيف سوغ الطعن في أئمة الاجتهاد، وهم لله يكدحون، وعن سنة نبيه يتناضلون؟! فأنى يظن بهم ذلك! أو لم يدر أن سبيل المجتهد غير سبيل الناقل، وأن ليس للمجتهد أن يتسارع إلى قبول النقل والعمل به إلا بعد السبك والاتقان، وتصفح العلل والأسباب، فلعله علم من ذلك ما لم يعلمه، أو فهم منه ما لم يفهمه، وأقصى ما يرى به المجتهد في قضية يوجد فيها حديث مخالف أن يقال: لم يبلغه الحديث، أو بلغه من طريق لم ير قبوله، مع أن الطاعن لو قيض له ذوقهم فألقى إليه القول من معدنه وفي نصابه، وقال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساق بعض هديه من ذي الحليفة، وساق بعضه من قديد، وأتى عليّ رضي الله عنه ببعضها من اليمن، وجميع ما ساق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى البيت: إما ست وثلاثون، أو سبع وثلاثون بدنة، والاشعار لم يذكر إلا في واحدة منهما، وقد روي أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترى هديه من قديد، وقديد: قرية بين مكة والمدينة، وبينها وبين ذي الحليفة مسافة بعيدة، أفلا يحتمل أن يتأمل المجتهد في فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيرى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أقام الاشعار في واحدة، ثم تركه في البقية، حيث رأى الترك أولى، لاسيما والترك آخر الأمرين، أو اكتفى عن الاشعار بالتقليد، لأنه يسد مسده في المعنى المطلوب منه، والاشعار يجهد البدنة، وفيه ما لا يخفى من أذية الحيوان، وقد نهى عن ذلك قولاً، ثم استغنى عنه بالتقليد، ولعله مع هذه الاحتمالات رأى القول بذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حج، وقد حضره الجم الغفير، ولم يرو حديث الاشعار إلا شرذمة قليلون، رواه ابن عباس، ولفظ حديثه على ما ذكرناه، رواه المسور بن مخرمة، وفي حديثه ذكر الاشعار من غير تعرض للصيغة، ثم إن المسور وإن لم ينكر فضله وفقهه، فإنه ولد بعد الهجرة بسنتين، وروته عائشة، وحديثها ذلك أورده المؤلف في هذا الباب، ولفظ حديثها: فتلت قلائد بدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي، ثم قلدها وأشعرها وأهداها، فما حرم عليه شيء كان أحل له، ولم يتعلق هذا الحديث بحجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما كان ذلك عام حج أبو بكر رضي الله عنه، والمشركون يومئذ كانوا يحضرون الموسم، ثم نهوا، وروي عن ابن عمر أنه أشعر الهدي، ولم يرفعه، فنظر المجتهد إلى تلك العلل والأسباب، ورأى على كراهة الاشعار جمعاً من التابعين، فذهب إلى ما ذهب يسارع في العذر قبل مسارعته في اللوم، وإلا أسمع نفسه: * ليس بعشك فادرجي*، والله يغفر لنا ولهم، ويجيرنا من الهوى، فإنه شريك العمى، انتهى.