للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[هذه كلمة الكوثري في الدفاع عن أبي حنيفة، وهي غير موجودة في طبعتنا هذه أصلا، واستدركناها من مقدمة نسخة برنامج المحدث، وإنما أثبتناها تكميلا للنسخة]

تقدمة (١)

"نصب الرَّايَة" وَكلمَة عَن فقه أهل الْعرَاق

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

الْحَمد لله الَّذِي أَعلَى منَازِل الْفُقَهَاء، إعلاء يوازن مَا لَهُم من الهمم القعساء، فِي خدمَة الحنيفية السمحة الْبَيْضَاء، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى سيدنَا مُحَمَّد خَاتم الْأَنْبِيَاء، وَسَنَد الأتقياء، ومخرج الْأمة من الظُّلُمَات إِلَى النُّور والضياء، وَعَلَى آله وَصَحبه، السَّادة النجباء، والقادة الأصفياء، شموس الْهِدَايَة، وبدور الاهتداء، الناضري الْوُجُوه، بتبليغ مَا بلغوه من أَدِلَّة الشَّرِيعَة الغراء.

وَبعد: فَإِن كتاب نصب الرَّايَة - لتخريج أَحَادِيث الْهِدَايَة" للْإِمَام الْحَافِظ الْفَقِيه النَّاقِد الشَّيْخ "عبد الله بن يُوسُف الزَّيْلَعِيّ" - أَعلَى الله سُبْحَانَهُ مَنْزِلَته فِي الْجنَّة - كتاب لَا نَظِير لَهُ فِي استقصاء أَحَادِيث الْأَحْكَام، حَيْثُ كَانَ مُؤَلفه لَا يفتر سَاعَة عَن الْبَحْث، وَلَا يعوقه عَن التنقيب عائق، وَلَا يحول دون فحصه تواكل، وَلَا تكاسل، وَلَا يزهده فِي الْأَخْذ عَن أقرانه، وَعَمن هُوَ دونه كبَر النَّفس، وسعته فِي الْعلم، بل طَرِيقَته الدأب، ليل نَهَار، عَلَى نشدان طلبته، أَيْنَمَا وجد ضالته، وَهَذَا الْإِخْلَاص الْعَظِيم، وَهَذَا الْبَحْث الْبَالِغ، جعلا لكتابه من الْمنزلَة فِي قُلُوب الْحفاظ، مَالا تساميه منزلَة كتاب من كتب التَّخْرِيج، وَالْحق يُقَال: إِنَّه لم يدع مطمعاً لباحث وَرَاء بَحثه وتنقيبه، بل اسْتَوْفَى فِي الْأَبْوَاب ذكر مَا يُمكن لطوائف الْفُقَهَاء أَن يَتَمَسَّكُوا بِهِ عَلَى اخْتِلَاف مذاهبهم، من أَحَادِيث، قَلما يَهْتَدِي إِلَى جَمِيع مصادرها أهل طبقته، وَمن بعده من محدثي الطوائف، إِلَّا من أجهد نَفسه إجهاده، وَسَعَى سَعْيه لوُجُود كثير مِنْهَا فِي غير مظانها، بل قلَّ من ينصف إنصافه، فيدون أَدِلَّة الْخُصُوم تدوينه، غير مقتصر عَلَى أَحَادِيث طَائِفَة دون طَائِفَة، مَعَ بَيَان مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا، بغاية النصفة، بِخِلَاف كثير مِمَّن ألفوا فِي أَحَادِيث الْأَحْكَام فِي الْمذَاهب، فَإنَّك تراهم يغلب عَلَيْهِم التَّقْصِير فِي الْبَحْث، أَو السّير وَرَاء أهواء، وَالتَّقْصِير فِي الْبَحْث، يظْهر الْمَسْأَلَة القوية الْحجَّة بمظهر أَنَّهَا لَا تدل عَلَيْهَا حجَّة، وَالسير وَرَاء هوى، تعصب يأباه أهل الدَّين، وأخطر مَا يغشى عَلَى بَصِيرَة الْعَالم عِنْد النّظر فِي الادلة، هُوَ التعصب المذهبي، فَإِنَّهُ يلبس الضَّعِيف لِبَاس الْقوي، وَالْقَوِي لِبَاس الضَّعِيف، وَيجْعَل الناهض من الْحجَّة داحضاً، وَبِالْعَكْسِ، وَلَيْسَ ذَلِك شَأْن من يخَاف الله فِي أَمر دينه، ويتهيب ذَلِك الْيَوْم الرهيب الَّذِي يُحَاسب فِيهِ كل امْرِئ عَلَى مَا قدمت يَدَاهُ، فَإِذا وجد المتفقه من هُوَ وَاسع الْعلم، غوَّاص لَا يتغلب عَلَيْهِ الْهَوَى، بَين حفاظ الحَدِيث، فليعض عَلَيْهِ بالنواجذ، فَإِن ذَلِك، الكبريت الْأَحْمَر بَينهم، والحافظ الزَّيْلَعِيّ هَذَا، جَامع لتِلْك الْأَوْصَاف حَقًا، وَلذَلِك أَصبَحت أَصْحَاب التخاريج بعده عَالَة عَلَيْهِ، فدونك كتب: الْبَدْر الزَّرْكَشِيّ. وَابْن الملقن. وَابْن حجر. وَغَيرهم، من الَّذين يظنّ بهم أَنهم يحلقون فِي سَمَاء الْإِعْجَاب، ويناطحون السَّحَاب، وقارنها بكتب الزَّيْلَعِيّ، حَتَّى تتيقن صدق مَا قُلْنَا، بل إِذا فعلت ذَلِك رُبمَا تزيد، وَتقول: إِن سَدى تِلْكَ الْكتب ولحمتها، كتب الزَّيْلَعِيّ، إِلَّا فِي التعصب المذهبي، وَكتاب الزَّيْلَعِيّ هَذَا يجد فِيهِ الْحَنَفِيّ صفوة مَا اسْتدلَّ بِهِ أَئِمَّة الْمذَاهب من أَحَادِيث الْأَحْكَام، ويلقى الْمَالِكِي فِيهِ نقاوة مَا خرجه ابْن عبد الْبر فِي "التَّمْهِيد" و "الاستذكار" وخلاصة مَا بَسطه عبد الْحق فِي كتبه، فِي أَحَادِيث الْأَحْكَام، وَالشَّافِعِيّ يرَى فِيهِ غربلة مَا خرجه الْبَيْهَقِيّ فِي "السّنَن". و"الْمعرفَة". وَغَيرهمَا، وتمحيص مَا ذكره النَّوَوِيّ فِي "الْمَجْمُوع". و"شرح مُسلم" واستعراض مَا يُبينهُ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي "الإِلمام". و"الإِمَام". و"شرح الْعُمْدَة"، وَكَذَلِكَ الْحَنْبَلِيّ يلاقي فِيهِ وُجُوه النَّقْد فِي "كتاب التَّحْقِيق" - لِابْنِ الْجَوْزِيّ. و"تَنْقِيح التَّحْقِيق" - لِابْنِ عبد الْهَادِي، وَغير ذَلِك من الْكتب الْمُؤَلّفَة فِي أَحَادِيث الْأَحْكَام، بل يجد الباحث فِيهِ سُوَى مَا فِي الصِّحَاح، وَالسّنَن، وَالْمَسَانِيد، والْآثَار، والمعاجم، من أَدِلَّة الْأَحْكَام أَحَادِيث فِي الْأَبْوَاب، من مُصَنف ابْن أبي شيبَة - أهم كتاب فِي نظر الْفَقِيه -، ومصنف عبد الرَّزَّاق، وَنَحْوهمَا، مِمَّا لَيْسَ بمتناول يَد كل باحث الْيَوْم، مَعَ اسْتِيفَاء الْكَلَام فِي كل حَدِيث، من أَقْوَال أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل، وَمن كتب الْعِلَل الْمَعْرُوفَة، وَهَذَا مَا جعل لهَذَا الْكتاب ميزة عظمى بَين كتب التخاريج. وَلَا أُرِيد بِهَذَا، الثَّنَاء عَلَى كِتَابه تثبيط العزائم، وتخدير الهمم، وَلَا إِنْكَار أَنه لَا نِهَايَة لما يفِيض الله سُبْحَانَهُ عَلَى أهل الْعَزِيمَة الصادقة من خبايا الْعُلُوم، وَلَا نفي أَن فِي كتب من بعده بعض فَوَائِد، يشْكر مؤلفوها عَلَيْهَا، ويزداد استقاء أَمْثَالهَا من ينابيعها الصافية، عِنْد مضاعفة السَّعْي، وَصدق الْعَزِيمَة، وَإِنَّمَا قلت مَا قلت، إعطاءٍ لكل ذِي حق حَقه، واجلالاً للْعلم واستنهاضاً للهمم، نَحْو محاولة الِاسْتِدْرَاك، عَلَى مثل هَذَا الْعَالم الْجَلِيل.

وَهَذَا حَافظ وَاحِد من حفاظ الْحَنَفِيَّة، قَامَ بِمثل هَذَا الْعَمَل الْعَظِيم الَّذِي وَقع موقع الإِعجاب الْكُلِّي بَين طوائف الْفُقَهَاء كلهم، فِي عصره، وَبعد عصره، فَمن قلب صَحَائِف هَذَا الْكتاب، ودرس مَا فِي الْأَبْوَاب من الْأَحَادِيث، تَيَقّن أَن الْحَنَفِيَّة فِي غَايَة التَّمَسُّك بالأحاديث، والْآثَار فِي الْأَبْوَاب كلهَا، لَكِن لَا تَخْلُو البسيطة من متعنت يتقوَّل فيهم، إِمَّا جهلا، أَو عصبية جَاهِلِيَّة، فَمرَّة يَتَكَلَّمُونَ فِي أَخذهم بِالرَّأْيِ، عِنْد فقدان النَّص، مَعَ أَنه لَا فقه بِدُونِ رَأْي، وَمرَّة يرمونهم بقلة الحَدِيث، وَقد امْتَلَأت الْأَمْصَار بأحاديثهم، وَأُخْرَى يَقُولُونَ: إِنَّهُم يستحسنون، وَمن اسْتحْسنَ فقد شرَّع، وَأَيْنَ يكون موقع هَذَا الْكَلَام من الصدْق؟! بعد الِاطِّلَاع عَلَى كَلَامهم فِي الِاسْتِحْسَان، وَكَيف يَسْتَطِيع الْقَائِل بِالْقِيَاسِ رد الِاسْتِحْسَان؟ وَالشَّرْع لله وَحده، إِنَّمَا الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ - مبِّلغه، وقصارى مَا يعْمل الْفَقِيه فَهْم النُّصُوص فَقَط، فَمن جعل للفقيه حظاً من التشريع، لم يفهم الْفِقْه وَالشَّرْع، بل ضل السَّبِيل، وَجعل شرع الله من الأوضاع البشرية، وحاش لله أَن يَجْعَل للبشر دخلا فِي شَرعه ووحيه.

هَذَا، وَقد رَأَيْت تفنيد تِلْكَ النقولات، بسرد مُقَدمَات فِي الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد، وَفِي الِاسْتِحْسَان الَّذِي يَقُول بِهِ الْحَنَفِيَّة، وَفِي شُرُوط قبُول الأخيار عِنْدهم، وَفِي منزلَة الْكُوفَة من عُلُوم الْقُرْآن، والْحَدِيث، والعلوم الْعَرَبيَّة، وَالْفِقْه، وأصوله، وَكَون الْكُوفَة ينبوع الْفِقْه، المُشرق، من بِلَاد الْمشرق، الْمُنْتَشِر فِي قارات الأَرْض كلهَا، وميزة مَذْهَب أهل الْعرَاق عَلَى سَائِر الْمذَاهب، ومبلغ اتساعهم فِي الْحِفْظ، وَكَثْرَة الْحفاظ بَينهم من أقدم العصور الاسلامية إِلَى عصرنا هَذَا، زِيَادَة عَلَى مَا لَهُم من الْفَهم الدَّقِيق، والغوص فِي الْمعَانِي، وَقد اعْترف لَهُم بذلك كل الْخُصُوم، ونظرة عجلى فِي كتب الْجرْح وَالتَّعْدِيل، والله سُبْحَانَهُ حسبي، وَنعم الْوَكِيل.


(١) تحتوي عَلَى مزية تَخْرِيج الْحَافِظ الزَّيْلَعِيّ عَلَى تخاريج سَائِر حفاظ الحَدِيث، وَكلمَة فِي الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان، وَبَيَان حَقِيقَة الرَّأْي فِي نظر السّلف، وَذكر مزية الْكُوفَة عَلَى سَائِر الْبِلَاد، فِي عهد الصَّحَابَة، وَبعده، قراناً، وَسنة. فقهاً، وتحديثاً، وعربية، وَغَيرهَا، وَذكر الْحفاظ، والمحدثين من الْحَنَفِيَّة فِي العصور الْمُخْتَلفَة، وَكلمَة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل. وَهَذِه جَوَاهِر ودرر من الْحَقَائِق الناصعة التاريخية، الَّتِي لَا مجَال للْكَلَام فِيهَا، عِنْد الْبَصِير الْمنصف، وغرر تَقول من الاكابر مَا لَا يتلقاه الا أمثالهم، جاد بهَا قلم الْمُحَقق النظار، المحنك المتبحر، الْأُسْتَاذ الْكَبِير الشَّيْخ "مُحَمَّد زاهد الكوثري" فِي عجلة المستوفز بالتماس "الْمجْلس العلمي" من فضيلته، طَالَتْ حَيَاته فِي عَافِيَة. "البنوري".

<<  <  ج: ص:  >  >>