للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منزلَة الْكُوفَة من عُلُوم الِاجْتِهَاد

وَلَا بدَّ هُنَا من استعراض مَا كَانَت عَلَيْهِ الْكُوفَة، من عهد بنائها إِلَى زمن أبي حنيفَة، ليعلم من لَا يعلم وَجه امتيازها عَن بَاقِي الْأَمْصَار، فِي تِلْكَ العصور، حَتَّى أَصبَحت مشرق الْفِقْه الناضج، المتلاطم الْأَنْوَار، فَأَقُول: لَا يخْفَى أَن الْمَدِينَة المنورة زَادهَا الله تَشْرِيفًا - كَانَت مهبط الْوَحْي، ومستقر جمهرة الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ - إِلَى أَوَاخِر عهد ثَالِث الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، خلا الَّذين رحلوا إِلَى شواسع الْبلدَانِ للْجِهَاد وَنشر الدَّين، وتفقيه الْمُسلمين، وَلما ولي الْفَارُوق رَضِي الله عَنهُ، وافتتح الْعرَاق فِي عَهده، بِيَد سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ، أَمر عمر بِبِنَاء الْكُوفَة، فبنيت سنة ١٧ هـ، وأسكن حولهَا الفصح من قبائل الْعَرَب، وَبعث عمر رَضِي الله عَنهُ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، إِلَى الْكُوفَة، ليعلم أَهلهَا الْقُرْآن، ويفقههم فِي الدَّين، قَائِلا لَهُم: "وَقد آثرتكم بِعَبْد الله عَلَى نَفسِي" وَعبد الله هَذَا مَنْزِلَته فِي الْعلم بَين الصَّحَابَة عَظِيمَة جدا، بِحَيْثُ لَا يَسْتَغْنِي عَن علمه - مثل عمر - فِي فقهه، ويقظته، وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ عمر: "كُنَيْفٌ ملئ فقهاً"، وَفِي رِوَايَة "علما"، وَفِيه ورد حَدِيث: "إِنِّي رضيت لأمتي مَا رَضِي لَهَا ابْن أم عبد"، وَحَدِيث: "وتمسكوا بِعَهْد ابْن مَسْعُود"، وَحَدِيث: "من أَرَادَ أَن يقْرَأ الْقُرْآن غضاً، كَمَا أنزل، فليقرأه عَلَى قِرَاءَة ابْن أم عبد"، وَقَالَ النَّبِي صلوَات الله عَلَيْهِ: "خُذُوا الْقُرْآن من أَرْبَعَة"، وَذكر ابْن مَسْعُود فِي صدر الْأَرْبَعَة، وَقَالَ حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ: "كَانَ أقرب النَّاس هَديا، ودلاً، وسمتاً، برَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن مَسْعُود، حَتَّى يتَوَارَى منا فِي بَيته، وَلَقَد علم المحفظون من أَصْحَاب مُحَمَّد أَن ابْن أم عبد، هُوَ أقربهم إِلَى الله زلفى"، وَحُذَيْفَة حُذَيْفَة، وَمَا ورد فِي فضل ابْن مَسْعُود، فِي - كتب السّنة - شَيْء كثير جدا، فَابْن مَسْعُود عُني بتفقيه أهل الْكُوفَة، وتعليمهم الْقُرْآن من سنة بِنَاء الْكُوفَة، إِلَى أَوَاخِر خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، عناية لَا مزِيد عَلَيْهَا، إِلَى أَن امْتَلَأت الْكُوفَة بالقراء، وَالْفُقَهَاء الْمُحدثين، بِحَيْثُ أبلغ بعض ثِقَات أهل الْعلم عدد من تفقه عَلَيْهِ، وَعَلَى أَصْحَابه، نَحْو أَرْبَعَة آلَاف عَالم، وَكَانَ هُنَاكَ مَعَه أَمْثَال سعد بن مَالك - أبي وَقاص - وَحُذَيْفَة، وعمار، وسلمان، وَأبي مُوسَى، من أصفياء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، يساعدونه فِي مهمته، حَتَّى إِن عَلّي بن أبي طَالب كرم الله وَجهه، لما انْتقل إِلَى الْكُوفَة سُرَّ من كَثْرَة فقهائها، وَقَالَ: "رحم الله ابْن أم عبد، قد مَلأ هَذِه الْقرْيَة علما" وَفِي لفظ: "أَصْحَاب ابْن مَسْعُود، سُرُج هَذِه الْقرْيَة" وَلم يكن بَاب مَدِينَة الْعلم، بِأَقَلّ عناية بِالْعلمِ مِنْهُ، فوالى تفقيههم، إِلَى أَن أَصبَحت الْكُوفَة لَا مثيل لَهَا فِي أَمْصَار الْمُسلمين، فِي كَثْرَة فقهائها، ومحدثيها، والقائمين بعلوم الْقُرْآن، وعلوم اللُّغَة الْعَرَبيَّة فِيهَا، بعد أَن اتخذها عَلّي بن أبي طَالب كرم الله وَجهه، عَاصِمَة الْخلَافَة، وَبعد أَن انْتقل إِلَيْهَا أقوياء الصَّحَابَة، وفقهاؤهم، وبينما ترَى مُحَمَّد بن الرّبيع الجيزي، والسيوطي لَا يستطيعان أَن يذكرَا من الصَّحَابَة الَّذين نزلُوا مصر إِلَّا نَحْو ثَلَاثمِائَة صَحَابِيّ، تَجِد الْعجلِيّ يذكر أَنه توطن الْكُوفَة وَحدهَا، من الصَّحَابَة، نَحْو ألف وَخَمْسمِائة صَحَابِيّ، بَينهم نَحْو سبعين بَدْرِيًّا، سُوَى من أَقَامَ بهَا، وَنشر الْعلم بَين ربوعها، ثمَّ انْتقل إِلَى بلد آخر، فضلا عَن بَاقِي بِلَاد الْعرَاق، وَمَا يرْوَى عَن ربيعَة وَمَالك من الْكَلِمَات البتراء فِي أهل الْعرَاق، لَيْسَ بثبات عَنْهُمَا أصلاُ، وجلَّ مقدارهما عَن مثل تِلْكَ المجازفة، ولسنا فِي حَاجَة هُنَا إِلَى شرح ذَلِك، فنكتفي بِالْإِشَارَةِ، فكبار أَصْحَاب عَلّي. وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا بهَا، لَو دونت تراجمهم فِي كتاب خَاص لأتى كتابا ضخماً، والمجال وَاسع جدا لمن يُرِيد أَن يؤلف فِي هَذَا الْمَوْضُوع، وَقد قَالَ مَسْرُوق بن الأجدع التَّابِعِيّ الْكَبِير: "وجدت علم أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْتَهِي إِلَى سِتَّة: إِلَى عَلّي. وَعبد الله. وَعمر. وَزيد بن ثَابت. وَأبي الدَّرْدَاء. وأبيّ بن كَعْب، ثمَّ وجدت علم هَؤُلَاءِ السِّتَّة انْتَهَى إِلَى عليّ، وَعبد الله"، وَقَالَ ابْن جرير: "لم يكن أحد لَهُ أَصْحَاب معرفون، حرروا فتياه ومذاهبه فِي الْفِقْه، غير ابْن مَسْعُود، وَكَانَ يتْرك مذْهبه، وَقَوله، لقَوْل عمر. وَكَانَ لَا يكَاد يُخَالِفهُ فِي شَيْء من مذاهبه، وَيرجع من قَوْله، إِلَى قَوْله" وَكَانَ بَين فُقَهَاء الصَّحَابَة من يُوصي أَصْحَابه بالإلتحاق إِلَى ابْن مَسْعُود، إِقْرَارا مِنْهُم بواسع علمه، كَمَا فعل معَاذ بن جبل، حَيْثُ أَوْصَى صَاحبه عَمْرو بن مَيْمُون الأودي باللحاق بِابْن مَسْعُود، بِالْكُوفَةِ

وَلَا مطمع هُنَا فِي استقصاء ذكر أَسمَاء أَصْحَاب عَلّي. وَابْن مَسْعُود بِالْكُوفَةِ، وَلَكِن لَا بَأْس فِي ذكر بَعضهم هُنَا، فَنَقُول:

١ - مِنْهُم - عُبَيْدَة بن قيس السَّلمَانِي، الْمُتَوفَّى سنة ٧٢ هـ، كَانَ شُرَيْح إِذا اشْتبهَ عَلَيْهِ الْأَمر فِي قَضِيَّة يُرْسل إِلَى السَّلمَانِي هَذَا يستشيره، كَمَا فِي "الْمُحدث المفاصل" - للرامهرمزي، وَشُرَيْح ذَلِك، الْمَعْرُوف بِكَمَال الْيَقَظَة فِي الْفِقْه، وَأَحْكَام الْقَضَاء.

٢ - وَمِنْهُم - عَمْرو بن مَيْمُون الأودي، الْمُتَوفَّى سنة ٧٤ هـ، من قدماء أَصْحَاب معَاذ بن جبل كَمَا سبق، معمر مخضرم، أدْرك الْجَاهِلِيَّة، وَحج مائَة عمْرَة وَحجَّة.

٣ - وَمِنْهُم - زر بن حُبَيْش، الْمُتَوفَّى سنة ٨٢ هـ، معمر مخضرم، كَانَ يؤم النَّاس فِي التَّرَاوِيح، وَهُوَ ابْن مائَة وَعشْرين سنة، وَهُوَ رِوَايَة قِرَاءَة ابْن مَسْعُود، وَمِنْه أَخذهَا عَاصِم، وَقد رَوَاهَا عَنهُ أَبُو بكر بن عَيَّاش، وفيهَا الْفَاتِحَة. والمعوذتان. وَأما مَا يرْوَى عَن ابْن مَسْعُود من الشواذ، فَلَيْسَ بقرَاءَته، وَإِنَّمَا هِيَ أَلْفَاظ رويت عَنهُ فِي صدد التَّفْسِير. فدوَّنها من دَوَّنها فِي عداد الْقِرَاءَة، كَمَا يظْهر من "فَضَائِل الْقُرْآن" - لأبي عبيد، وَكَانَ زر من أعرب النَّاس، وَكَانَ ابْن مَسْعُود يسْأَله عَن الْعَرَبيَّة.

٤ - وَمِنْهُم - أَبُو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن حبيب السّلمِيّ، الْمُتَوفَّى سنة ٧٤ هـ، عرض الْقُرْآن عَلَى عليّ كرم الله وَجهه، وَهُوَ عمدته فِي الْقِرَاءَة، وَقد فرَّغ نَفسه لتعليم الْقُرْآن لأهل الْكُوفَة بمسجدها، أَرْبَعِينَ سنة. كَمَا أخرجه أَبُو نعيم بِسَنَدِهِ، وَمِنْه تلقى السبطان الشهيدان، الْقِرَاءَة بِأَمْر أَبِيهِمَا، وَعَاصِم تلقى قِرَاءَة عليٍّ عَنهُ، وَهِي الْقِرَاءَة الَّتِي يَرْوِيهَا حَفْص عَن عَاصِم، وَقِرَاءَة عَاصِم بالطريقين فِي أقْصَى دَرَجَات التَّوَاتُر فِي جَمِيع الطَّبَقَات، وَعرض السّلمِيّ أَيْضا عَلَى عُثْمَان. وَزيد بن ثَابت.

٥ - وَمِنْهُم - سُوَيْد بن غَفلَة الْمذْحِجِي، ولد عَام الْفِيل، فصحب أَبَا بكر، وَمن بعده، إِلَى أَن توفّي بِالْكُوفَةِ سنة ٨٢ هـ.

٦ - وَمِنْهُم - عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ، الْمُتَوفَّى سنة ٦٢ هـ، وَعنهُ يَقُول ابْن مَسْعُود: "لَا أعلم شَيْئا إِلَّا وعلقمة يُعلمهُ". وَفِي "الْفَاصِل": حَدثنَا الْحسن بن سهل الْعَدوي، من أهل رامهرمز، حَدثنَا عَلّي بن الْأَزْهَر الرَّازِيّ، حَدثنَا جرير عَن قَابُوس، قَالَ: قلت لأبي، كَيفَ تَأتي عَلْقَمَة، وَتَدَع أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم؟! فَقَالَ: يَا بني، لِأَن أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يستفتونه، وَله رحْلَة إِلَى أبي الدَّرْدَاء بِالشَّام، والى عمر. وَزيد. وَعَائِشَة بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ مِمَّن جمع عُلُوم الْأَمْصَار.

٧ - وَمِنْهُم - مَسْرُوق بن الأجدع، عبد الرَّحْمَن الْهَمدَانِي الْمُتَوفَّى سنة ٦٣ هـ، معمر مخضرم، أدْرك الْجَاهِلِيَّة، وَله رحلات وَاسِعَة فِي الْعلم.

٨ - وَمِنْهُم - الْأسود بن يزِيد بن قيس النَّخعِيّ، الْمُتَوفَّى سنة ٧٤، مُعَمر مخضرم، حج ثَمَانِينَ، مَا بَين حجَّة وَعمرَة وَهُوَ ابْن أخي عَلْقَمَة، وَكَانَ خَال إِمَام أهل الْعرَاق، إِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ.

٩ - وَمِنْهُم - شُرَيْح بن الْحَارِث الْكِنْدِيّ، مُعَمر مخضرم، وَلَي قَضَاء الْكُوفَة فِي عهد عمر، وَاسْتمرّ عَلَى الْقَضَاء، اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة، إِلَى أَيَّام الْحجَّاج، إِلَى أَن توفّي سنة ٨٠ هـ. وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ عليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه: "قُم يَا شُرَيْح! فَأَنت أقضى الْعَرَب" (١) فناهيك بقاض يكون مَرْضيَّ الْقَضَاء فِي عهد الرَّاشِدين، وَفِي الدولة الأموية طول هَذِه الْمدَّة، وَقد غَذَّى بأقضيته الدقيقة، فقه أهل الْكُوفَة، ودربهم عَلَى الْفِقْه العلمي.

١٠ - وَمِنْهُم - عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، أدْرك مائَة وَعشْرين من الصَّحَابَة، وَوَلِيَ الْقَضَاء، غرق مَعَ ابْن الْأَشْعَث شَهِيدا، سنة ٨٣ هـ.


(١) وَليكن بَين عَيْنَيْك أَنه قَول من ورد فِيهِ "وأقضاهم عليّ"، نعم إِنَّمَا يعرف ذَا الْفضل من النَّاس ذووه. "البنوري".

<<  <  ج: ص:  >  >>