شُرُوط قبُول الْأَخْبَار
يرَى الْحَنَفِيَّة قبُول الْخَبَر الْمُرْسل إِذا كَانَ مرسله ثِقَة، كالخبر الْمسند، وَعَلِيهِ جرت جمهرة فُقَهَاء الْأمة، من الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، وتابعيهم، إِلَى رَأس الْمِائَتَيْنِ، وَلَا شكّ أَن إغفال الْأَخْذ بالمرسل - وَلَا سِيمَا مُرْسل كبار التَّابِعين - تَرْكٌ لشطر السُّنَّة. قَالَ أَبُو دَاوُد صَاحب "السّنَن" فِي رسَالَته إِلَى أهل مَكَّة المتداولة بَين أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ: "وَأما الْمَرَاسِيل، فقد كَانَ يحْتَج بهَا الْعلمَاء، فِيمَا مَضَى، مثل سُفْيَان الثَّوْريّ. وَمَالك بن أنس، وَالْأَوْزَاعِيّ حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِي، فَتكلم فِيهِ"، وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: "لم يزل النَّاس عَلَى الْعَمَل بالمرسل، وقبوله، حَتَّى حدث بعد الْمِائَتَيْنِ القَوْل برده" كَمَا فِي "أَحْكَام الْمَرَاسِيل" - للصلاح العلائي، وَفِي كَلَام ابْن عبد الْبر مَا يَقْتَضِي أَن ذَلِك إِجْمَاع، ومناقشة من ناقشهم بِأَنَّهُ يُوجد بَين السّلف من يُحَاسب بعض من أرسل محاسبة غير عسيرة، مناقشة فِي غير محلهَا، لِأَن تِلْكَ المحاسبة إِنَّمَا هِيَ من عدم الثِّقَة بالراوي الْمُرْسل، كَمَا ترَى مثل هَذِه المحاسبة فِي حق بعض المسندين، فَإِذن لَيست الْمَسْأَلَة مَسْأَلَة إِسْنَاد وإرسال، بل هِيَ مَسْأَلَة الثِّقَة بالراوي، وَالشَّافِعِيّ، لما رد الْمُرْسل، وَخَالف من تقدمه اضْطَرَبَتْ أَقْوَاله، فَمرَّة قَالَ: إِنَّه لَيْسَ بِحجَّة مُطلقًا، إِلَّا مَرَاسِيل ابْن المسيِّب، ثمَّ اضْطر إِلَى رد مَرَاسِيل ابْن المسيِّب نَفسه فِي مسَائِل، ذكرتها فِيمَا علقت عَلَى طَبَقَات الْحفاظ، ثمَّ إِلَى الْأَخْذ بمراسيل الآخرين، ثمَّ قَالَ بحجية الْمُرْسل عِنْد الاعتضاد، وَلذَلِك تَعب أَمْثَال الْبَيْهَقِيّ فِي التَّخَلُّص من هَذَا الِاضْطِرَاب، وركبوا الصعب، وَفِي "مُسْند" الشَّافِعِي نَفسه مَرَاسِيل كَثِيرَة، بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ الَّذِي هُوَ الْمَعْرُوف بَين السّلف، وَفِي "موطأ مَالك"، نَحْو ثَلَاثمِائَة حَدِيث مُرْسل، وَهَذَا الْقدر أَكثر من نصف مسانيد "الْمُوَطَّأ" وَمَا فِي أَحْكَام الْمَرَاسِيل للصلاح العلائي من البحوث فِي الْإِرْسَال، جُزْء يسير، مِمَّا لأهل الشان من الْأَخْذ وَالرَّدّ فِي ذَلِك، وَفِيمَا علقناه عَلَى شُرُوط الْأَئِمَّة الْخَمْسَة، وَجه التَّوْفِيق بَين قَول الْفُقَهَاء بتصحيح الْمُرْسل، وَقَول متأخري أهل الرِّوَايَة بتضعيفه، مَعَ نوع من الْبسط فِي الِاحْتِجَاج بالمرسل، بل البُخَارِيّ نَفسه ترَاهُ يسْتَدلّ فِي كتبه بالمراسيل، وَكَذَا مُسلم فِي الْمُقدمَة، وجزء الدّباغ، وَلَا يتَحَمَّل هَذَا الْموضع لبسط الْمقَال فِي ذَلِك بِأَكْثَرَ من هَذَا. وَمن شُرُوط قبُول الْأَخْبَار عِنْد الْحَنَفِيَّة مُسندَة، كَانَت، أَو مُرْسلَة، أَن لَا تشذ عَن الْأُصُول المجتمعة عِنْدهم، وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء بالغوا فِي استقصاء موارد النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة، وأقضية الصَّحَابَة، إِلَى أَن أرجعوا النَّظَائِر الْمَنْصُوص عَلَيْهَا، والمتلقاة بِالْقبُولِ إِلَى أصل تتفرع هِيَ مِنْهُ، وَقَاعِدَة تندرج تِلْكَ النَّظَائِر تحتهَا، وَهَكَذَا فعلوا فِي النَّظَائِر الْأُخْرَى، إِلَى أَن أَتموا الفحص والاستقراء، فاجتمعت عِنْدهم أصُول - مَوضِع بَيَانهَا، كتب الْقَوَاعِد والفروق - يعرضون عَلَيْهَا أَخْبَار الْآحَاد، فَإِذا ندت الْأَخْبَار عَن تِلْكَ الْأُصُول، وشذت، يعدونها مناهضة لما هُوَ أَقْوَى ثبوتاً مِنْهَا، وَهُوَ الأَصْل المؤصل من تتبع موارد الشَّرْع الْجَارِي مجْرى خبر الكافة، والطَّحَاوِي كثير المراعاة لهَذِهِ الْقَاعِدَة فِي كتبه، ويظن من لَا خبْرَة عِنْده أَن ذَلِك تَرْجِيح مِنْهُ لبَعض الرِّوَايَات عَلَى بَعْضهَا بِالْقِيَاسِ، وَآفَة هَذَا الشذوذ الْمَعْنَوِيّ فِي الْغَالِب، كَثْرَة اجتراء الروَاة عَلَى الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، بِحَيْثُ تخل بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيّ، وَهَذِه قَاعِدَة دقيقة، يتعرف بهَا البارعون فِي الْفِقْه مَوَاطِن الضعْف، والنتوء فِي كثير من الرِّوَايَات، فيرجعون الْحق إِلَى نصابه بعد مضاعفة النّظر فِي ذَلِك، وَلَهُم أَيْضا مدارك أُخْرَى فِي علل الحَدِيث دقيقة، لَا ينتبه إِلَيْهَا دهماء النقَلة، وللعمل المتوارث عِنْدهم شَأْن يختبر بِهِ صِحَة كثير من الْأَخْبَار، وَلَيْسَ هَذَا الشَّأْن بمختص بِعَمَل أهل الْمَدِينَة، بل الْأَمْصَار الَّتِي نزلها الصَّحَابَة وسكنوها، وَلَهُم بهَا أَصْحَاب، وَأَصْحَاب أَصْحَاب. سَوَاء فِي ذَلِك - وَفِي رِسَالَة اللَّيْث إِلَى مَالك، مَا يُشِير إِلَى ذَلِك -.
وَمن الْقَوَاعِد المرضية، عِنْد أبي حنيفَة أَيْضا اشْتِرَاط اسْتِدَامَة الْحِفْظ من آن التَّحَمُّل إِلَى آن الْأَدَاء، وَعدم الِاعْتِدَاد بِالْحِفْظِ، إِذا لم يكن الرَّاوِي ذَاكِرًا لمرويه، كَمَا فِي "الإِلماع" - للْقَاضِي عِيَاض. وَغَيره، وَكَذَلِكَ اقْتِصَار تسويغ الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى عَلَى الْفَقِيه، مِمَّا يرَاهُ أَبُو حنيفَة حتما. وَمن قواعدهم أَيْضا مُرَاعَاة مَرَاتِب الْأَدِلَّة فِي الثُّبُوت، وَالدّلَالَة، فللقطعي ثبوتاً. أَو دلَالَة مرتبته، وللظني كَذَلِك حكمه عِنْدهم، فَلَا يقبلُونَ خبر الْآحَاد إِذا خَالف الْكتاب، وَلَا يعدون بَيَان الْمُجْمل بِهِ فِي شَيْء من الْمُخَالفَة للْكتاب، فَلَا يكون بَيَان الْمُجْمل بِخَبَر الْآحَاد من قبيل الزِّيَادَة عَلَى الْكتاب عِنْدهم، وَإِن أورد بعض المشاغبين مَا هُوَ من قبيل الْبَيَان عَلَى قَاعِدَة الزِّيَادَة، تعنتاً، وجهلاً بالفارق، وَمن قواعدهم أَيْضا رد خبر الْآحَاد فِي الْأُمُور المحتمة الَّتِي تعم بهَا الْبَلْوَى، وتتوفر فِيهَا الدَّوَاعِي إِلَى نقلهَا بطرِيق الاستفاضة، حَيْثُ يعدون ذَلِك مِمَّا تكذبه شَوَاهِد الْحَال، وَاشْتِرَاط شهرة الْخَبَر عِنْد طوائف الْفُقَهَاء. وَيَقُول ابْن رَجَب: إِن أَبَا حنيفَة يرَى أَن الثِّقَات إِذا اخْتلفُوا فِي خبرٍ، زِيَادَة، أَو نقصا، فِي الْمَتْن، أَو السَّنَد، فالزائد مَرْدُود إِلَى النَّاقِص، إِلَى غير ذَلِك من قَوَاعِد رصينة، أَقَامُوا الْحجَج عَلَى كل مِنْهَا، فِي كتب الْأُصُول المبسوطة، فَمن يقبل الحَدِيث عَن كل من دَبَّ وهبَّ، فِي عهد ذيوع الْفِتَن، وشيوع الْكَذِب، بِنَصّ الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ، يظنّ بهم أَنهم يخالفون الحَدِيث، لَكِن الْأَمر لَيْسَ كَذَلِك، بل عمدتهم الْآثَار فِي التأصيل، والتفريع، كَمَا يظْهر ذَلِك لمن أحسن الْبَحْث، ووُفق للإجادة فِي الْمُقَارنَة والموازنة، من غير أَن يستسلم للهوى، والتقليد الْأَعْمَى، والله سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُوفق.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute