اشتهر بعض الصّالحين بكثرة الصّيام، فكان يجتهد في إظهار فطره للنّاس حتّى كان يقوم يوم الجمعة والنّاس مجتمعون في مسجد الجامع، فيأخذ إبريقا، فيضع بلبلته في فيه ويمصّه ولا يزدرد منه شيئا، ويبقى ساعة كذلك لينظر النّاس إليه فيظنّون أنّه يشرب الماء، وما دخل إلى حلقه منه شيء. كم ستر الصّادقون أحوالهم وريح الصّدق ينمّ عليهم.
ريح الصّيام أطيب من ريح المسك تستنشقه قلوب المؤمنين وإن خفي، وكلّما طالت عليه المدّة ازداد قوّة ريحه.
كم أكتم حبّكم عن الأغيار … والدّمع يذيع في الهوى أسراري
كم أستركم هتكتم أستار … من يخفي في الهوى لهيب النّار
ما أسرّ أحد سريرة إلاّ ألبسه الله رداءها علانية.
وهبني كتمت السّرّ أو قلت غيره … أتخفى على أهل القلوب السّرائر
أبى ذاك أنّ السّرّ في الوجه ناطق … وأنّ ضمير القلب في العين ظاهر
ومنها: أنّه أشقّ على النّفوس؛ وأفضل الأعمال أشقّها على النّفوس، وسبب ذلك أنّ النّفوس تتأسّى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة النّاس وطاعاتهم كثر أهل الطّاعة؛ لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطّاعات. وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسّى بهم عموم النّاس، فيشقّ على نفوس المتيقظين طاعاتهم؛ لقلّة من يقتدون بهم فيها.
ولهذا المعنى قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:«للعامل منهم أجر خمسين منكم، إنّكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون»(١). وقال: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود
(١) أخرجه: أبو داود (٤٣٤١)، والترمذي (٣٠٦٠)، وابن ماجه (٤٠١٤)، وانظر «ضعيف الجامع الصغير» (٢٣٤٤). وقال الألباني: فقرة أيام الصبر ثابتة.