للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم رمضان في السّفر في شدّة الحرّ دون أصحابه، كما قال أبو الدّرداء: «كنّا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في رمضان في سفر وأحدنا يضع يده على رأسه من شدّة الحرّ، وما فينا صائم إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن رواحة» (١). وفي «الموطإ» أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان بالعرج يصبّ الماء على رأسه وهو صائم من العطش، أو الحرّ (٢).

فإذا اشتدّ توقان النّفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله عزّ وجلّ في موضع لا يطّلع عليه إلاّ الله، كان ذلك دليلا على صحّة الإيمان؛ فإنّ الصّائم يعلم أن له ربّا يطّلع عليه في خلوته، وقد حرّم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربّه، وامتثل أمره، واجتنب نهيه خوفا من عقابه، ورغبة في ثوابه، فشكر الله له ذلك، واختصّ لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله؛ ولهذا قال بعد ذلك: إنّه إنّما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. قال بعض السّلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.

لمّا علم المؤمن الصّائم أنّ رضا مولاه في ترك شهواته، قدّم رضا مولاه على هواه؛ فصارت لذّته في ترك شهوته لله؛ لإيمانه باطلاع الله. وثوابه وعقابه أعظم من لذّته في تناولها في الخلوة؛ إيثارا لرضا ربّه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشدّ من كراهته لألم الضّرب.

ولهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل؛ لعلمه كراهة الله لفطره في هذا الشهر، وهذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أنّ الله يكرهه، فتصير لذّته فيما


(١) أخرجه: البخاري (٣/ ٤٣ - ٤٤) (١٩٤٥)، ومسلم (٣/ ١٤٥) (١١٢٢).
(٢) أخرجه: مالك في «الموطإ» (ص ١٩٧).

<<  <   >  >>