للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المباحات لا يكمل إلاّ بعد التقرّب إليه بترك المحرّمات، فمن ارتكب المحرّمات ثم تقرّب بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرّب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته؛ لأنّ العمل إنّما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه، دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختصّ به. هذا هو أصل جمهور العلماء.

وفي «مسند الإمام أحمد»: أنّ امرأتين صامتا في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأعرض، ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن يتقيئا، فقاءتا ملء قدح قيحا ودما وصديدا ولحما عبيطا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:

«إنّ هاتين صامتا عمّا أحلّ الله لهما، وأفطرتا على ما حرّم الله عليهما؛ جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا يأكلان لحوم النّاس» (١).

ولهذا المعنى - والله أعلم - ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشّراب على الصّائم بالنّهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل؛ فإنّ تحريم هذا عام في كلّ زمان ومكان، بخلاف الطعام والشراب، فكان إشارة إلى أنّ من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه، فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل؛ فإنّه محرّم بكلّ حال لا يباح في وقت من الأوقات.

وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وللصّائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه»:

أمّا فرحة الصّائم عند فطره؛ فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر، فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصا عند اشتداد الحاجة


(١) أخرجه: أحمد (٥/ ٤٣١)، وأبو يعلى (١٥٧٦)، والبيهقي في «الدلائل» (٦/ ١٨٦)، وقال في «مجمع الزوائد» (٣/ ١٧١): «رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه رجل لم يسم».

<<  <   >  >>