وفي «صحيح مسلم»، عن النّعمان بن بشير، قال:«كنت عند منبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلاّ أن أسقي الحاجّ.
وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلاّ أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل ممّا قلتم. فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عزّ وجلّ:
{أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،} إلى آخر الآية [التّوبة: ١٩]» (١).
فهذا الحديث الذي فيه ذكر سبب نزول هذه الآية يبين أن المراد أفضل ما يتقرب به إلى الله عزّ وجلّ من أعمال النوافل والتطوع، وأنّ الآية تدلّ على أنّ أفضل ذلك الجهاد مع الإيمان. فدلّ على أنّ التطوّع بالجهاد أفضل من التطوّع بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ. وعلى مثل هذا يحمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
هذا، وإنّ الجهاد أفضل من الحجّ المتطوّع به، فإنّ فرض الحجّ تأخّر عند كثير من العلماء إلى السّنة التاسعة، ولعلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال هذا الكلام قبل أن يفرض الحجّ بالكليّة، فكان حينئذ تطوّعا.
وقد قيل: إن الجهاد كان في أوّل الإسلام فرض عين، فلا إشكال في هذا على تقديمه على الحجّ قبل افتراضه. فأما بعد أن صار الجهاد فرض كفاية والحجّ فرض عين؛ فإنّ الحجّ المفترض حينئذ يكون أفضل من الجهاد. قال