يزل يقول: الموت والله! الموت والله! حتى خرجت نفسه. فكان الفقهاء يرون أنّه مات على توبة.
وروى الواحدي في كتاب «قتلى القرآن» بإسناد له، أنّ رجلا من أشراف أهل البصرة كان منحدرا إليها في سفينة ومعه جارية له، فشرب يوما، وغنّته جاريته بعود لها، وكان معهم في السفينة فقير صالح، فقال له: يا فتى تحسن مثل هذا؟ قال: أحسن ما هو أحسن منه. وكان الفقير حسن الصّوت، فاستفتح وقرأ: {قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: ٧٧ - ٧٨]، فرمى الرّجل ما بيده من الشراب في الماء، وقال: أشهد أنّ هذا أحسن مما سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم، فتلا عليه:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها} الآية [الكهف: ٢٩]. فوقعت من قلبه موقعا، ورمى بالشراب في الماء، وكسر العود، ثم قال: يا فتى، هل هنا فرج؟ قال: نعم، {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الآية [الزّمر: ٥٣]. فصاح صيحة عظيمة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد له أنّ صالحا المرّيّ رحمه الله كان يوما في مجلسه يقصّ على الناس، فقرأ عنده قارئ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ}[غافر: ١٨]، فذكر صالح النار وحال العصاة فيها، وصفة سياقهم إليها، وبالغ في ذلك وبكى الناس، فقام فتى كان حاضرا في مجلسه، وكان مسرفا على نفسه، فقال: أكلّ هذا في القيامة؟ قال صالح: نعم، وما هو أكبر منه، لقد بلغني أنّهم يصرخون في النّار حتّى تنقطع أصواتهم فلا يبقى منهم إلاّ كهيئة الأنين من المريض المدنف،