حفز النجاح السياسى العظيم، الذي ظفرت به الدولة الإسلامية فى القرن الثانى للهجرة، رجالها إلى اقتحام ميادين جديدة، ميادين تعزز هذا النصر السياسى والحربى الذي كان يبعث الهيبة فى القلوب، ميادين تغزو العقول وتعمل بقوة تفوق قوة السيف؛ اتجهت الدولة الإسلامية إلى تراث الأمم السابقة لها تأخذ منها ما يتلاءم وذوقها فى الحياة وما يتفق ومنطقها فى الدراسة، لتبنى أسس هذا المجد العقلى الذي تطمح إليه؛ ترجم المترجمون عن الفارسية واليونانية والسوريانية ترجمات أشرقت بعدها نهضة علمية تبشر بسلطان عظيم، أخذت هذه النهضة العلمية تشع فى كثير من نواحى النشاط العقلى، إذ ساهم العقل الإسلامى مساهمة دفّاعة فى هذه النهضة، كان من أثرها هذا الفضل الذي اعترفت به البشرية، والذي أتاح لتيار الحضارة أن يأخذ سبيله فى مجراه. فى مطلع هذه النهضة نشأ علم البلدان وهو المعروف فى اصطلاحنا الحديث بالجغرافية الوصفية.
قام علم البلدان وكانت الحياة العملية تتطلع إليه فى شوق وفى إلحاح، ذلك لأن التجارة كانت تريد منه أن يكون لها هاديا ومرشدا فى دولة مترامية الأطراف واسعة الأرجاء مختلفة الشعوب والأجناس والألسنة، كانت تريد أن تعرف سبلها ومسالكها ومن تعطى وما تأخذ، ولقد وجدت فى هذا العلم مبتغاها، فأقبل عليه التجار والناس يطلبونه من أصحابه، فظفر بتأييد أتاح له أن يتطور تطورا سريعا، تطورا جعل علم البلدان فى أوائل القرن الرابع الهجرى علما كامل المعالم والأسس.
ولقد أتاح الله لهذا العلم أفذاذا، جابوا البلاد وتحملوا المشاق، وعرفوا مسالكها وطرقها وناسها، ووقفوا على طبيعة البلاد التى زاروها وحياة أهلها الاجتماعية، ودوّنوا ما رأوا وما خبروا وما سمعوا، حريصين أن يبيّنوا ما رأوا وما سمعوا، فخرجت كتبهم نورا يهدى، ومرشدا لا يضل ولا يضلل، وحظى بالذكر من بين هؤلاء ابن خرداذبه والجيهانى وأبو الفرج قدامة بن جعفر وأبو زيد البلخى وغيرهم، ولقد بلغ من أهمية كتاب ابن خرداذبه وكتاب الجيهانى أنّ ابن حوقل كان يحرص كل الحرص على أن يرافقاه فى حلّه وترحاله، قال: [وكان لا يفارقنى