للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبين منهج أبى زيد البلخى- الذي يبدو من عنوان كتابه- أنه جعل المصورات أهم شىء فيه، هذا المنهج الذي أقامه الإصطخرى بين القديم والجديد والتوفيق بينهما، على أساس أن تكون المصورة هى العمدة فى القول، هو ما يهدف إليه المؤلف، كما يتضح ذلك من ثنايا كتابه وممن اقتفى أثره مثل ابن حوقل، وعلى ذلك يمكن فهم عبارة الإصطخرى بأنه أول من جعل الحديث عن الأقاليم بيانا قائما على أساس المصورات الجغرافية، هذا بالإضافة إلى تقسيمه الأقاليم تقسيما يقوم على أساس جغرافى لا إدارى، وهو أمر- فيما يبدو حتى الآن- لم يسبق إليه.

احتفل الإصطخرى احتفالا عظيما بمنهجه جعله يضع صورة الإقليم أول ورقة فى موضوع الإقليم، أو قل عنوانا له وحديثا تصويريا له؛ وكان هذا الصنيع من الإصطخرى دفعا لعلم الجغرافية عند العرب خطوة إلى الأمام، ويدلك على ما لهذا المنهج من تقدير أعجب المؤلفين فى هذا العلم أن ابن حوقل (٣٦٧ هـ/ ٩٧٨ م) الذي جاء بعده تأثر بمنهج الإصطخرى، ولم يقتصر على المصورات يذكر فيها المدن والجبال والأنهار وطرق المواصلات كسابقه، وإنما أضاف إلى ذلك بعض بيانات على المصورة نفسها، كما يتضح ذلك من صورته للمغرب مثلا.

أما الأمر الثانى: وهو تبويبه لموضوعات الكتاب فقد جعل مكة المكرمة أو ديار العرب مفتاح الحديث عن الأقاليم، وهذا منهج أيضا لو فكرنا فيه على ضوء الواقع آنئذ رأيناه سليما، ذلك لأن العالم فى ذلك الوقت كان ينقسم إلى قسمين، قسم يعيش فى بلاد الإسلام، وقسم آخر يعيش على تخوم أو وراء هذه الأقاليم الإسلامية المترامية الأطراف، التى تمتد رقعتها من بحر الظلمات (المحيط الأطلسى) غربا إلى حدود الصين- باصطلاح القوم آنئذ- شرقا، والتى تتصل شمالا وجنوبا بأقوام مختلفة الأجناس والأديان واللسان، وهؤلاء الأقوام لم تكن لهم رابطة أو أساس يجمعهم أو يستظلون به، كما هو الشأن فى بلاد الإسلام، التى كان يجمعهم اللسان الواحد وهو العربى، أضف إلى ذلك أنها كانت مقر الحضارة والثقافة ودين الإسلام، ذلك الدين الذي كان له شأن عظيم فى مظاهر الحياة الاجتماعية، إلى حد أننا نرى حركات الإصلاح والحركات السياسية تقومان باسمه، ومن ثمّ فالإسلام إلى جانب أنه دين سماوى كان ظاهرة اجتماعية خطيرة الشأن، لها اعتبارها إلهام فى أوضاع الحياة فى مختلف مناحيها، ومن هنا كانت بلاد العرب مفتاح الحديث، لأن بها الأماكن المقدسة التى لها فى نفوس الناس قداسة، وفى قلوبهم شوق إليها وتطلع إلى معرفتها، وعلى ذلك فإنّ اتخاذ بلاد العرب بداية للحديث هو اختيار للوسيلة لتقبّل الناس بنفوس مطمئنّة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن علم الجغرافية علم حديث أينعت ثمرته فى مجال العلوم الشرعية واللغوية والتاريخ اتضح لنا الهدف من اتخاذ بلاد العرب مفتاحا للحديث، ذلك لأن هذه العلوم كانت تتصل بالدين من قرب أو من بعد، وهذا الاتصال هو الذي مهّد لها أن يعلو شأنها وأن تنجح فى حياتها، وهو الأمر الذي أشار إليه المؤلف فى قوله (لأن فيها الكعبة ومكة أم القرى) ، وعلى أية حال لم يكن هناك خير من بلاد العرب التى تضم مكة والمدينة والتى يسعى إليها الحجيج من كافة الأقطار الإسلامية فى كل عام.