إن تبويب الكتاب على هذا الوجه أمر يتفق والعقلية السائدة فى عصر المؤلف، ولكنّ الذي يؤخذ على الاصطخرى فى كتابه المسالك والممالك هو جعله المناسبة- عارضة كانت أو غير عارضة- طريقا يثب عليه للحديث عن موضوع آخر، وهذا العيب- وإن كان محدودا فى كتاب الاصطخرى- إلا أنه لا يخلى المؤلف من المؤاخذة، ذلك لأننا نراه يثب من الحديث عن بلاد العرب إلى الحديث عن بحر فارس، معلّلا هذه الوثبة بأن هذا البحر يكتنف أكثر ديار العرب، ولكن هذا التعليل هو فى حقيقة الأمر تغطية لاتخاذه المناسبة أساسا للحديث عن هذا الموضوع، وهذه خصلة نجدها شائعة فى الكتب العربية القديمة، ونقول إن هذا التعليل للتغطية لأن بحر فارس (أو المحيط الهندى بالمصطلح الحديث) يكتنف ديارا أهلها غير عرب مثل فارس والسند والهند وما سماه الجغرافيون العرب الصين، ومثل اكتناف بحر فارس لبلاد العرب مثل بحر القلزم (البحر الأحمر) فلم اختار المؤلف بحر فارس وترك بحر القلزم؟ ذلك أمر صمت عنه، بل لماذا- إذا كان التعليل صحيحا- لم يفرد لبحر القلزم حديثا وهو بحر يفرق بين قارتين؟ هذا العيب فى التأليف لا ينفرد به المؤلف وحده، بل هو شائع فى المؤلفات العربية القديمة فى مختلف العلوم وخاصة فى المؤلفات الأدبية، ولكن الذي يغفر للمؤلف زلّته أنه لم يمض فى هذه السبيل مضاء غيره من المؤلفين، ذلك لأنه ارتد إلى منطقه فى علم الجغرافية وأخذ يتحدث عن الأقاليم مرتبة من الغرب إلى الشرق، وأخذ يفصّلها وفق المنهج الذي رسمه لنفسه فى مقدمة كتابه المسالك والممالك.
هذا الترتيب وذلك التبويب الذي أجمعت عليه كل المصادر التى عاونت دى جويه فى نشر كتاب الاصطخرى، نجدهما ملتزمين فى مخطوطة دار الكتب المصرية رقم ١٩٩ جغرافية، التى كانت فى حوزة العالم المصرى على باشا مبارك وأهديت لدار الكتب، والتى كانت أحد العمد الرئيسية فى عرضنا لكتاب الاصطخرى، باعتبار أنها مخطوطة لم تستخدم فى نشر الكتاب من قبل، يضاف إلى ذلك أن مخطوطة دار الكتب تلتزم نفس الطريق الذي تلتزم به المخطوطات الأخرى، فى وضع المصورات الجغرافية فى مطلع الحديث عن الإقليم، وهو الأساس الذي فرضه الاصطخرى على نفسه وهو يؤلف كتابه المسالك والممالك.
ونحن إذا تجاوزنا هذا الشكل العام لتنظيم الكتاب وذهبنا إلى مصورات المخطوطات الأخرى المنسوبة للاصطخرى نجدها بوجه عام مشابهة لمصورات مخطوطة دار الكتب، لا نلحظ فيها اختلافا يدعو إلى الريبة أو الشك فى نسبة هذه المخطوطة للاصطخرى، ونقول بوجه عام لأن راسم مصورات مخطوطة دار الكتب يتميز عن غيره بآيتين، الأولى هى: الزخرفة والتلوين، والثانية هى: الذوق فى الرسم. فهذه الزخرفة لتجعل منظر الصورة جميلا طغى على تمام المشابهة، ونحن نقول هذا استنتاجا لأن الدقة فى النقل عن الاصطخرى لا يمكن أن نصل إليه من مخطوطة بعينها دون غيرها من المخطوطات الأخرى، ذلك لأن الأصل الذي وضعه الاصطخرى قد أبلاه الزمن، ولم يبق إلا هذه المصورات المنقولة، والمصورات مهما بدت متماثلة فلا بد من وجود اختلاف،