إلى حد الزنج) ، فهو يرفض الخرافات التى تجعل النيل ينبع من الجنة، ويتضح ذلك أيضا فى حديثه عن الديلم (وفى حماقات الأولين أن الضحاك مقيد بها) ، وفى ختام حديثه عن اليمن فى قوله:(ويحكى عن الغيلان بها من الأعجوبة ما لا أستجيز حكايته) ، فمن هذه الأمثلة تراه رجلا يبحث عن الحقيقة وفق ما يهديه إليه عقله، ويرفض الجرى وراء الخرافات قدر المناهج المتاحة لعصره، وهو بعد ذلك أمين فى التأليف يذكر المحاسن والمساوئ وإن كانت فى قومه الفرس، قال فى فصله عن فارس:(وقد انتحل قوم من الفرس ديانات خرجوا بها من المذاهب فدعوا إليها وانتصبوا لها، لولا إهمال أمرهم ضرب من العصبية وباب من التحامل فنذكر المحاسن ولا نذكر غيرها) .
والقارئ لكتاب الاصطخرى يلاحظ فى وضوح أن منهجه فى التأليف يقوم على أسس ثلاثة، أولاد المشاهدة والوصف وفق الرؤية، وتجد ذلك واضحا فى حديثه عن إقليم ما وراء النهر وديار ثمود وغيرهما، وثانيا تحرى الدقة جهد الطاقة مخالفا غيره تارة ومتفقا تارة أخرى، وثالثا سماع الأخبار والاقتصاد فى روايتها، ولقد بيّن ذلك فى مقدمة كتابه قائلا:(فقد يوجد فى الأخبار ولا يتعذر على من أراد تقصّى شىء من ذلك من أهل كل بلد، ولذلك تجوّزنا فى ذكر المسافات والمدن وسائر ما نذكره) ، وليس معنى هذا أنه استغنى عن النقل، وإنما معناه أنه تحرى الاقتصاد فى الرواية، وأثبت ما هو ضرورى ومكمل لكتابه، مما رآه متفقا ومنهجه فى الصحة والمنطق والتصوير.
ولا يخفى على الباحث أن الرجل أنفق السنين الأخيرة من حياته مؤلفا لهذا الكتاب، وأنت ترى ذلك واضحا بين ثنايا كتابه، تراه فى بلاد العرب فى أوائل القرن الرابع، كما يتبين ذلك من قوله:(وليس بمكة ماء جار إلا شيء بلغنى بعد خروجى عنها أنه أجرى إليها من عين كان عمل فيها بعض الولاة فاستتم فى أيام المقتدر أمير المؤمنين) ، وهذا يشير- وفقا لمهجه- أنه بدأ فى تأليف كتابه فى أوائل القرن الرابع الهجرى، وأنه ظل يضيف إليه نتيجة مرحلته فى الأقطار الإسلامية حتى حوالى منتصف القرن الرابع، كما يدل على ذلك قوله:(فوقعت فتنة بسمرقند فى أيام مقامى بها وأحرق الباب وذهبت الكتابة وأعاد ذلك الباب أبو المظفر محمد بن لقمان بن نصر ابن أحمد بن أسد كما كان من حديد من غير تلك الكتابة.) ، ومن هذا ندرك أن الرجل لم يأخذ فى تأليف الكتاب إلا بعد نضجه واختزان كثير من التجارب وغربلة ما سمع من أخبار، وأنه ثمرة جهد وعلم كلفاه نصف قرن تقريبا.
ومع ذلك فلا عجب أن يكون لكتاب الاصطخرى أهمية تدعو إلى الاحتفال به، أهمية تدفع النساخ أن يقوموا بنسخه وتوزيعه، ولكن عدم شهرة الرجل فى زمانه كانت عاملا يعوق رواجه، ومن ثمّ ظل محدود