وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جيوش الروم فتندموا. فرد عمرو مع رسله أنه ليس بيننا وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما أن تدخلوا فى الإسلام فكنتم إخواننا وكان لنا ما لكم وعلينا ما عليكم؛ فإن أنتم أبيتم أعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون؛ أو جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين. فلما رجعت رسل المقوقس قال لهم كيف رأيتموهم، قالوا رأينا أقواما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة، إنما جلوسهم على التراب وأكلهم على الركب وأميرهم كواحد منهم، يغسلون أطرافهم بالماء، فإذا حضرت صلاتهم لم يتخلف عنها أحد منهم ويتخشعون فى صلاتهم تخشيعا كثيرا. فقال المقوقس والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لزلزلوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، وإن لم يغننا صلح «ا» هؤلاء القوم وهم محصورون بهذا النيل فإنهم لن يجيبوننا إذا تمكنوا من الأرض. وكان ذلك وقت خروج النيل وفيضه، والمسلمون قد أحدقت بهم المياه من كل جانب لا يقدرون على النفوذ إلى الصعيد ولا إلى غيره. ثم بعث إليهم عمرو بن العاص ١٠ رجال أحدهم عبادة ابن الصامت، وكان أسود اللون من العرب، وأمرهم أن يكون متكلم القوم فإنه كان فصيحا، وأمرهم أنه لا يجيبهم إلا إلى إحدى ثلاث خصال وهى المتقدم ذكرها.
فركبوا السفن ودخلوا على المقوقس؛ فتقدم عبادة للكلام فهابه المقوقس لسواده وقال نحوا عنى هذا الأسود وقدموا غيره، فقالوا جميعا إن هذا الأسود سيدنا وأفضلنا رأيا وعلما. فكلمه عبادة «ب» ثانيا، فقال المقوقس لأصحابه: لقد هبت منظره وإن قوله عندى لأهيب، وإن هذا وأصحابه إنما خرجوا إلى خراب الأرض وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. وقال نعطى كل من فى الجيش دينارين ونعطى أميرهم ١٠٠ دينار ونبعث إلى خليفتهم ١٠٠٠ دينار؛ فلم يجبه عبادة إلا إلى إحدى ثلاث خصال. فقال المقوقس لأصحابه ماذا ترون؟
فقالوا: أما ما أرادوا من دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يمكن ولا نترك دين المسيح إلى دين لا نعرفه، وأما ما أرادوا [من] أن يجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك، فإن رضوا بأن نضعف لهم ما أعطيناهم وينصرفوا عنا كان أهون علينا.