الحوادث من الممكنات فهو حادث كائن بعد إن لم يكن، وهو مخلوق مصنوع مربوب، وأنه يمتنع أن يكون فيما هو فقير ممكن مربوب شيئاً قديماً فضلاً عن أن يقارن حوادث لا أول لها، ولهذا كانت حركة الفلك دليلاً على حدوثه كما تقدم التنبيه عليه، وأما الرب تعالى إذا قيل لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل فاعلاً، لم يكن دوام كونه متكلماً بمشيئته وقدرته ودوام كونه فاعلاً بمشيئته وقدرته ممتنعاً، بل هذا هو الواجب لأن الكلام صفة كمال لا نقص فيه، فالرب تعالى أحق أن يتصف به من كل موصوف بالكلام، إذ كل كمال يثبت للمخلوق فالحق أولى به، لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال من المحدث الممكن المخلوق، ولأن كل كمال يثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له، فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعاً وهو محال بخلاف الفرض، وإما ممكناً يتوقف ثبوته له على غيره والرب تعالى لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره، فإن معطي الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون غيره أكمل منه أو كان غيره معطياً له الكمال وهذا ممتنع، بل هو بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال فلا يتوقف ثبوت كونه متكلماً على غيره، فيجب ثبوت كونه متكلماً وأن ذلك لم يزل ولا يزال، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً له بدون قدرته ومشيئته، والذي لم يزل يتكلم إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكناً له (١) .
وحينئذ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وإن قيل أنه ينادي ويتكلم بصوت لا يلزم من ذلك قدم صوت معين وإذا كان قد تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديماً لم يستلزم أن تكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة، لما علم من القرآن من الفرق بين النوع والعين، وهذا الفرق ثابت في الكلام والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات وبه تحل هذه الإشكالات الواردة على وحدة هذه الصفات وتعددها وقدمها وحدوثها
(١) هذا المذهب هو الذي قرره شيخنا في رسالة التوحيد بأوضح بيان عند إثبات الصفات ولكنه لم يفصل فروعه الآتية