وادعوا أن الرب لم يكن قادراً في الأزل على كلام يتكلم به ولا فعل يفعله، وأنه صار قادراً بعد أن لم يكن قادراً بغير أمر حدث، أو يغيرون العبارة فيقولون لم يزل قادراً، لكن يقولون أن المقدور كان ممتنعاً وأن الفعل صار ممكناً له بعد أن صار ممتنعاً عليه من غير تجدد شيء، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا كان قادراً في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، لا على ما لا يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يثبتونه قادراً في حال كون المقدور عليه ممتنعاً عندهم، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل وبين عينه كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه، فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول، فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته كما تدل على ذلك الدلائل القطعية، والفاعل بمشيئته لا يكون شيئاً من مفعوله لازماً بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازماً لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة فكيف الفاعل بالإرادة.
وما يذكر بأن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط فإن الشرط لا يلزمه أن يتقدم على المشروط بل قد يقارنه كما تقارن الحياة العلم، وأما ما كان فاعلاً سواء سمي أو لم يسمى علة فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء فاعلاً قط يلتزمه مفعول معين، وقول القائل حركت يدي فتحرك الخاتم هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين (١) ولأنه لو كان قديماً فاعله موجباً بذاته في الأزل ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شيء من الحوادث وهذا خلاف المشاهدة، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادراً على الكلام والفعل بل لم يزل متكلماً إذا شاء فاعلاً لما يشاء، ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال،
(١) لينظر العطف في هذه الجملة الشرطية على أي شيء يقابله، ولينظر جواب شرطها اين هو؟