فالأول يبقى على نفي الوجوب والتحريم المعلوم بالعقل حتى يثبت المغير له. وهذا استدلال بعدم الدليل السمعي المثبت على عدم الحكم، إذ يلزم من ثبوت مثل هذا الحكم ثبوت دليله السمعي، كما يستدل بعدم النقل لما تتوفر الهمم والدواعي على نقله وما توجب الشرعية نقله، وما يعلم من دين أهلها وعادتهم أنهم ينقلونه على أنه لم يكن، كالاستدلال بذلك على عدم زيادة في القرآن وفي الشرائع الظاهرة وعدم النص الجلي بالإمامة على علي أو العباس أو غيرهما، ويعلم الخاصة من أهل العلم بالسنن والآثار وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه انتفاء أمور من هذا هذا، لا يعلم انتفاءها غيرهم، ولعلمهم بما بنفيها من أمور منقولة يعلمونها هم، ولعلمهم بانتفاء لوازم نقلها؛ فإن وجود أحد الضدين ينفي الآخر، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.
الطريق السابع المصالح المرسلة، وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه، فهذه الطريق فيها خلاف مشهور، فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة، ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان. وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.
وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي. وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي. فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم فقط فقد قصر.