وإذا قيل لم يكن متكلماً ثم تكلم، أو قيل كان الكلام ممتنعاً ثم صار ممكناً له، كان هذا - مع وصفه له بالنقص في الأزل وأنه تجدد له الكمال ومع تشبيهه له بالمخلوق الذي ينتقل من النقص إلى الكمال - ممتنعاً من جهة أن الممتنع لا يصير ممكناً بلا سبب، والعدم المحض لا شيء فيه (١) فامتنع أن يكون الممتنع فيه يصير ممكناً بلا سبب حادث. وكذلك إذا قيل كلامه كله معنى واحد لازم لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا في الحقيقة تعطيلاً للكلام وجمعاً بين المتناقضين إذ هو إثبات لموجود لا حقيقة له، بل يمتنع أن يكون موجوداً مع أنه لا مدح فيه ولا كمال، وكذلك إذا قيل كلامه كله قديم العين وهو حروف وأصوات قديمة لازمة لذاته ليس فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا مع ما يظهر من تناقضه وفساده في المعقول لا كمال فيه إذ لا يتكلم بمشيئته ولا قدرته ولا إذا شاءه.
أما قول من يقول ليس كلامه إلا ما يخلقه في غيره فهذا تعطيل للكلام من كل وجه وحقيقته أنه لا يتكلم كما قال ذلك قدماء الجهمية، وهو سلب للصفات إذ فيه من التناقض والفساد حيث أثبتوا الكلام المعروف ونفوا لوازمه ما يظهر به أنه من أفسد أقوال العالمين، بأنهم أثبتوا أنه يأمر وينهى ويخبر ويبشر وينذر وينادي من غير أن يقوم به شيء من ذلك، كما قالوا أنه يريد ويحب ويبغض ويغضب من غير أن يقوم به شيء من ذلك، وفي هذا من مخافة صريح المعقول وصحيح المنقول ما هو مذكور في غير هذا الموضع.
وأما القائلون بقدم هذا العالم فهم أبعد عن المعقول والمنقول من جميع الطوائف ولهذا أنكروا الكلام القائم بذاته والذي يخلقه في غيره، ولم يكن كلامه عندهم إلا ما يحدث في النفوس من المعقولات والمتخيلات، وهذا (معنى) تكليمه لموسى عليه السلام وعندهم، فعاد التكليم إلى مجرد علم المكلم. ثم إذا قالوا مع ذلك أنه لا يعلم
(١) كذا في الأصل والمعنى المراد أنه ليس فيه شيء من معنى السببية